الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
معنى توحيد العبادة

الثاني: وتوحيد العبادة:

ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات، فهذا هو الذي جعلوا الله فيه الشركاء، ولفظ: «شريك» يشعر بالإقرار بالله تعالى، فالرسل -عليهم السلام- بعثوا لتقرير الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني بمثل قولهم في خطاب المشركين: أفي الله شك [إبراهيم: 10]، هل من خالق غير الله [فاطر: 3]، ونهيهم عن شرك العبادة؛ ولذا قال تعالى:

ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله [النحل: 36]؛ أي: قائلين لأممهم هذا القول.

فأفاد قوله: في كل أمة : أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل، ولم تبعث إليهم الأنبياء إلا لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأنه الخالق للعالم، وأنه رب السماوات والأرض، وما بينهما؛ فإنهم مقرون بهذا.

ولهذا أوردت الآيات غالبا باستفهام التقرير.

نحو: أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض [الأنعام: 14]، فأروني ماذا خلق الذين من دونه [لقمان: 11] أروني ماذا خلقوا من الأرض [فاطر: 40]، إلى غير ذلك مما سبق في الباب الأول من الأدلة الناطقة به، وهذا استفهام تقرير لهم أنهم مقرون بتوحيد الخالقية، والربوبية.

فتلك مسألة مجمع عليها بين الأمم كلها من أولهم إلى آخرهم، لم يختلف فيه أمة من الأمم، بل ولا واحد منهم أبدا إلا من يكون معتوها، أو مجنونا.

وبهذا عرفت أن المشركين لم يتخذوا ما اتخذوه معبودا لهم؛ كالأوثان، والأصنام، والمسيح، وأمه -عليهما السلام-، والملائكة، والجن والشياطين [ ص: 65 ] لأجل أنهم أشركوه في خلق شيء من الأشياء، وفي خلق أنفسهم، بل اتخذوهم آلهة وعبدوهم بناء على أنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى كما أفصحوا بذلك، وقالوا.

فهم مقرون بالله تعالى في نفس كلماتهم الكفرية، ويقولون: إنهم شفعاؤنا عند الله.

قال تعالى: قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [يونس: 18].

فجعل اتخاذهم الشفعاء شركا فيه، ونزه نفسه المقدسة عنه؛ لأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله لا يأذن لهؤلاء الشفعاء في الشفاعة، ولا هم أهل لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئا، فلا يصح من أحد لأحد منهم العبادة التي هي أقصى غايات الخضوع والتذلل، ولم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى؛ لأنه مولى النعم كلها؛ جليلها ودقيقها، كبيرها وحقيرها، فكان حقيقا بأقصى غاية الخضعان.

ومن هنا تقرر أن رأس العبادات، وأما الطاعات توحيد الله -سبحانه وتعالى- التي أفادته كلمته التي إليها كانت دعوة الرسل الكرام جميعهم، وهو قول: «لا إله إلا الله»؛ أي: لا معبود بحق إلا هو.

ومن ثم لم يقل: لا خالق، أو: لا رازق، أو: لا رب إلا الله.

فإن هذا التركيب لا يفيد ما يفيد اسم الجلالة الذي هو بمعنى المألوه: أي: المعبود.

والمراد: اعتقاد معناها من صميم الجنان، لا مجرد قولها باللسان.

ومعناها: إفراد الله تعالى بالعبادة؛ أي عبادة كانت مما ورد به الشرع، والنفي [ ص: 66 ] والبراءة من كل معبود دونه؛ إنسانا كان، أو حيوانا آخر، أو جمادا، أو نباتا، أو شيئا من الأشياء.

وقد علم الكفار هذا؛ لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ص: 5].

قال الشيخ أحمد بن علي المقريزي: إن الله سبحانه هو رب كل شيء ومالكه، وإلهه.

فالرب مصدر: رب، يرب، ربا، فهو راب.

فمعنى قوله: رب العالمين ؛ أي: رابهم، وهو الرب الخالق، الموجد لعباده، القائم بتربيتهم، وإصلاحهم، المتكفل لهم من خلق، ورزق، وعافية، وإصلاح دين، ودنيا.

والإلهية: كون العباد يتخذونه مألوها، معبودا، محبوبا، يفردونه بالحب، والخوف، والرجاء، والإخبات، والتوبة، والنذر، والطاعة، والطلب، والتوكل، ونحو هذه الأشياء.

التالي السابق


الخدمات العلمية