الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 213 ] الفرق التاسع والثلاثون بين قاعدة الزواجر وبين قاعدة الجوابر ) وهاتان قاعدتان عظيمتان وتحريرهما أن الزواجر تعتمد المفاسد فقد يكون معهما العصيان في المكلفين وقد لا يكون معها عصيان كالصبيان والمجانين فإنا نزجرهم ونؤدبهم لا لعصيانهم بل لدرء مفاسدهم واستصلاحهم وكذلك البهائم ثم هي قد يكون مقدرة كالحدود وقد لا تكون كالتعازير وأما الجوابر فهي مشروعة لاستدراك المصالح الفائتة والزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة ولا يشترط في حق من يتوجه في حقه الجابر أن يكون آثما ولذلك شرع مع العمد والجهل والعلم والنسيان والذكر وعلى المجانين والصبيان بخلاف الزواجر فإن معظمهما على العصاة زجرا لهم عن المعصية وزجرا لمن يقدم بعدهم على المعصية وقد تكون مع عدم العصيان كما نقدم تمثيله بالصبيان وكذلك قتال البغاة درءا لتفريق الكلمة مع عدم التأثيم لأنهم متأولون وقد اختلف في بعض الكفارات هل هي زواجر لما فيها من مشاق تحمل الأموال وغيرها أو هي جوابر لأنها عبادات لا تصح إلا بنيات وليس التقرب إلى الله زجرا بخلاف الحدود والتعزيرات فإنها ليست قربات لأنها ليست فعلا للمزجورين بل يفعلها الأئمة بهم ثم الجوابر تقع في العبادات والنفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح والأموال والمنافع فجوابر العبادات كالتيمم مع الوضوء وسجود السهو للسنن وجهة السفر في الصلاة مع الكعبة وجهة العدو في الخوف مع الكعبة إذا ألجأت الضرورة إلى ذلك .

وصلاة الجماعة لمن صلى وحده لأنه يجبر ما فاته من فضيلة الجماعة بالإعادة في جماعة أخرى وأخذ النقدين مع دون السن الواجب في الزكاة أو زيادة السن في ابن اللبون مع وصف الأنوثة الفائت في بنت المخاض والإطعام لمن أخر قضاء رمضان عن سنته إلى بعد شعبان أو لم يصم لعجزه والصيام والإطعام والنسك في حق من ارتكب محظورا من محظورات الحج أو الدم لترك الميقات أو التلبية أو شيء من واجبات الحج ما عدا الأركان أو العمل في التمتع أو القران وجبر الدم [ ص: 214 ] بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة في غيره وجبر الصيد في الحرم أو الإحرام بالمثل أو الإطعام أو الصيام أو الصيد المملوك بذلك لحق الله تعالى وبقيمته لحق الآدمي المالك وهو متلف واحد جبر ببدلين وهو من نوادر المجبورات ولم يشرع لشجر الحرم جابر خلافا للشافعي واعلم أن الصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني ولا تجبر الأموال إلا بالمال ويجبر الحج والعمرة والصيد بالبدني والمالي معا ومفترقين والصوم بالبدني بالقضاء وبالمال في الإطعام وأما جوابر المال فالأصل أن يؤتي بعين المال مع الإمكان فإن أتى به كامل الذات والصفات برئ من عهدته أو ناقص الأوصاف جبر بالقيمة لأن الأوصاف ليست مثلية إلا أن تكون الأوصاف تخل بالمقصود من تلك العين خللا كثيرا فإنه يضمن الجملة عندنا خلافا للشافعي كمن قطع ذنب بغلة القاضي ونحوه فإنه يتعذر بعد ذلك ركوبها على ذوي الهيئات وكذلك ضمنه أصحابنا المغصوب إذا ذبح الشاة أو طحن القمح أو ضرب الفضة دراهم أو شق الخشبة ألواحا أو زرع الحنطة ونحو ذلك وقال الشافعي بل له أخذ عين ماله حيث وجده وعند أصحابنا للغاصب منعه مما وجد من ماله في هذه الصورة والأول أنضر وأقرب للقواعد وأما إن جاء بها ناقصة القيمة في بعض المواطن لم يضمن لأن الفائت رغبات الناس وهي غير متقومة في الشرع ولا قائمة بالعين .

وتجبر الأموال المثلية بأمثالها لأن المثل أقرب إلى رد العين الذي هو الأصل من القيمة وقد خولفت هذه القاعدة في صورتين في لبن المصراة لأجل اختلاط لبن البائع بلبن المشتري وعدم تمييز المقدار وفيمن غصب ماء في المعاطش فإن جماعة من العلماء يضمنونه القيمة في محل غصبه .

وأما المنافع فالمحرم منها لا يجبر احتقارا لها كالمزمار ونحوه كما لم تجبر النجاسات من الأعيان واستثني من ذلك مهر المزني بها كرها تغليبا لجانب المرأة فإنها لم تأت محرما والظالم أحق أن يحمل عليه ولأنه كالغاصب لسكنى دار ولم يجبر اللواط لأنه لم يقوم قط في الشرع فأشبه القبلة والعناق وغير المحرم منه ما يضمن بالعقود الصحيحة والفاسدة والفوات تحت الأيدي المبطلة .

[ ص: 215 ] ولا تضمن منافع الحر بحبسه لأن يده على منافعه فلا يتصور فواتها في يد غيره ومنافع الأبضاع تضمن بالعقد الصحيح والفاسد والشبهة والإكراه ولا تجبر بالفوات تحت الأيدي العادية والفرق أن قليل المنافع يجبر بالقليل من الجابر وكثيرها بكثيره وضمان البضع بمهر المثل وهو يستحق بمجرد الإيلاج فلو جبر بالفوات لوجب ما لا يمكن ضبطه فضلا عن القدرة عليه فإن كل ساعة يفوت فيها من الإيلاجات شيء كثير جدا وإيجاب مثل هذا بعيد من قواعد الشرع .

وأما النفوس فإنها خارجة عن هذه القوانين لمصالح تذكر في الجنايات فروع ثلاثة في الزواجر الأول الحنفي إذا شرب يسير النبيذ قال الشافعي أحده وأقبل شهادته أما حده فلدرء المفسدة في التسبب لإفساد العقل وأما قبول شهادته فلأنه مقلد أو مجتهد وكلاهما غير عاص لأن حكم الله تعالى عليهما ما أدى إليه الاجتهاد وقال مالك أحده ولا أقبل شهادته أما حده فللمفسدة والمعصية معا بسبب أن إباحة اليسير من النبيذ على خلاف القياس الجلي والقياس الجلي يقتضي تحريمه قياسا على الخمر بجامع الإسكار وعلى خلاف النصوص الصريحة كقوله عليه السلام { ما أسكر كثيره فقليله حرام } وعلى خلاف القواعد لأن القواعد تقتضي صيانة العقول ومنع التسبب لإفسادها والحكم الذي يكون على خلاف أحد هذه الأمور إذا قضى به القاضي ينقض قضاؤه وما لا يقر مع قضاء القاضي وتأكده بالقضاء ولا نقره شرعا مع التأكيد فأولى أن لا نقره شرعا مع عدم التأكيد وما لا يقر شرعا ليس فيه تقليد ولا اجتهاد مقبول شرعا ومن أتى المفسدة بغير تقليد صحيح أو اجتهاد معتبر فهو عاص فنحده للمعصية والمفسدة ولهذه العلة لا أقبل شهادته لفسقه حينئذ بالمعصية وأما قول الشافعي إن التأديب قد يكون مع عدم المعصية بل لأجل المفسدة كتأديب الصبيان والبهائم فلا يفيده في هذه المسألة لأنا نسلم له ذلك في التأديب الذي ليس بمقدر وأما المقدر وهو الحدود فلا نسلم أنها قد تكون في غير معصية الثاني [ ص: 216 ] النبات المعروف بالحشيشة التي يتعاطاها أهل الفسوق اتفق فقهاء أهل العصر على المنع منها أعني كثيرها المغيب للعقل واختلفوا بعد ذلك هل الواجب فيها التعزير أو الحد على أنها مسكرة أو مفسدة للعقل من غير سكر ونصوص المتحدثين على النبات تقتضي أنها مسكرة فإنهم يصفونها بذلك في كتبهم .

والذي يظهر لي أنها مفسدة على ما أقرره في الفرق بينهما بعد هذا إن شاء الله تعالى فرع مرتب سئل بعض فقهاء العصر عمن صلى بالحشيشة معه هل تبطل صلاته أم لا ؟ فأفتى أنه إن صلى بها قبل أن تحمص أو تصلق صحت صلاته أو بعد ذلك بطلت صلاته وقال في تعليل الفرق بأنها إنما تغيب العقل بعد التحميص أو الصلق أما قبل ذلك وهي ورق أخضر فلا بل هي كالعصير الذي للعنب وتحميصها كغليانه وسألت عن هذا الفرق جماعة ممن يعانيها فاختلفوا على قولين فمنهم من سلم هذا الفرق وقال لا تؤثر إلا بعد مباشرة النار ومنهم من قال بل تؤثر مطلقا وإنما تحمص لإصلاح طعمها وتعديل كيفيتها خاصة فعلى القول بعدم هذا الفرق تبطل الصلاة مطلقا وعلى القول بالفرق يكون الحق ما قاله المفتي إن صح أنها من المسكرات وإلا صحت الصلاة بها مطلقا وهو الذي أعتقده أنها مفسدة والمفسدة لا تبطل الصلاة كالبنج والسيكران وجوزة بابل الثالث قال إمام الحرمين القاعدة في التأديبات إنما تكون على قدر الجنايات فكلما عظمت الجناية عظمت العقوبة فإذا فرض شخص من الجناة لا يؤثر فيه التأديب اللائق بجنايته ردعا والذي يؤثر فيه كالقتل ونحوه لا يجوز أن يكون عقوبة لتلك الجناية فإن هذا الجاني يسقط تأديبه مطلقا أما المناسب فيسقط لعدم الفائدة فيه والإيلام مفسدة لا تشرع إلا لتحصيل مصلحة فحيث لا مصلحة لا تشرع وأما غير المناسب فلعدم سببه المبيح فيسقط تأديبه مطلقا وهو متجه اتجاها قويا .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق التاسع والثلاثون بين قاعدة الزواجر وبين قاعدة الجوابر )

وتحرير هاتين القاعدتين العظيمتين أن بينهما فرقا من وجوه

الوجه الأول أن الزواجر مشروعة لدرء المفاسد المتوقعة والجوابر مشروعة لاستدراك المصالح الفائتة

الوجه الثاني أن معظم الزواجر على العصاة زجرا لهم عن المعصية وزجرا لمن يقدم بعدهم على المعصية وقد تكون مع عدم العصيان كما في الصبيان والمجانين فإنا نزجرهم ونؤدبهم لا لعصيانهم بل لدرء مفاسدهم واستصلاحهم وكما في البهائم وكقتال البغاة درءا لتفريق الكلمة مع عدم التأثيم لأنهم متأولون ومعظم الجوابر على من لا يكون آثما فقد شرع الجابر مع العمد والجهل والعلم والنسيان والذكر وعلى المجانين والصبيان

الوجه الثالث أن معظم الزواجر إما حدود مقدرة وإما تعزيرات غير مقدرة فهي ليست فعلا للمزجورين بل يفعلها الأئمة بهم وإنما الجوابر فعل لمن خوطب بها وقد اختلف في بعض الكفارات هل هي زواجر لما فيها من مشاق تحمل الأموال وغيرها أو هي جوابر لأنها عبادات لا تصح إلا بنيات وليس التقرب إلى الله تعالى زاجرا بخلاف الحدود والتعزيرات فإنها ليست قربات لأنها ليست فعلا للمزجورين كما علمت

الوجه الرابع أن الجوابر تقع في النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح والعبادات والأموال والمنافع بخلاف الزواجر فإنها إنما تقع في الجنايات والمخالفات ففي بداية المجتهد لابن رشد والجنايات التي لها حدود مشروعة خمس

أحدها جنايات على الأبدان أو النفوس والأعضاء وهو المسمى قتلا وجرحا

وثانيها جنايات على الفروج وهو المسمى زنا وسفاحا

وثالثها جنايات على الأموال وهذه ما كان منها مأخوذا بحراب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل وإن كان بتأويل سمي بغيا وما كان منها مأخوذا على وجه المعافصة من حرز يسمى سرقة وما كان منها مأخوذا بعلو مرتبة وقوة سلطان سمي غصبا ورابعها جناية على الأعراض وهي المسمى قذفا

وخامسها جنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه ا هـ [ ص: 212 ] ببعض تغيير للإصلاح فجوابر العبادات كالتيمم مع الوضوء وسجود السهو للسنن وجهة السفر في الصلاة مع الكعبة وجهة العدو في الخوف مع الكعبة إذا ألجأت الضرورة إلى ذلك وصلاة الجماعة لمن صلى وحده لأنه يجبر ما فاته من فضيلة الجماعة بالإعادة في جماعة وأخذ النقدين مع دون السن الواجب في الزكاة أو زيادة السن في ابن اللبون مع وصف الأنوثة الفائت في بنت المخاض والإطعام لمن أخر قضاء رمضان عن سنته إلى بعد شعبان أو لم يصم لعجزه والصيام والإطعام والنسك في حق من ارتكب محظورا من محظورات الحج والعمرة أو الدم لترك الميقات أو التلبية أو شيء من واجبات الحج ما عدا الأركان أو العمل في التمتع أو القران وجبر الدم بصوم ثلاثة أيام في الحج أي بعد الإحرام به وسبعة في غيره وجبر الصيد في الحرم أو الإحرام بالمثل أو الإطعام أو الصيام أو الصيد المملوك بذلك لحق الله تعالى وبقيمته لحق الآدمي المالك فهذا متلف واحد جبر ببدلين وهو من نوادر المجبورات ولم يشرع لشجر الحرم جابر خلافا للشافعي وبالجملة فالصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني .

والحج والعمرة والصيد تجبر بالبدني والمالي معا ومفترقين والصوم بالبدني بالقضاء وبالمال في الإطعام وأما جوابر المال فالأصل أن يؤتى بعين المال مع الإمكان فإن أتى به كامل الذات والصفات برئ من عهدته أو ناقص الأوصاف جبر نقصها بالقيمة لأن الأوصاف ليست مثلية إلا أن تكون الأوصاف تخل بالمقصود من تلك العين خللا كثيرا فإنه يضمن الجملة عندنا خلافا للشافعي كمن قطع ذنب بغلة القاضي ونحوه فإنه يتعذر بعد ذلك ركوبها على ذوي الهيئات وكذلك يضمن أصحابنا المغصوب للغاصب إذا ذبح الشاة أو طحن القمح أو ضرب الفضة دراهم أو شق الخشبة ألواحا أو زرع الحنطة ونحو ذلك من المفوتات فللغاصب منع المغصوب منه من أخذ ما وجده من ماله في هذه الصورة عند أصحابنا وقال الشافعي بل له أخذ عين ماله حيث وجده والأول أنضر وأقرب للقواعد ففي بداية المجتهد لأبي الوليد محمد بن رشد ما لفظه وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل مال الغاصب من أجل غصبه وسواء كان منفعة أو عينا إلا أن يحتج محتج بقوله عليه الصلاة والسلام { ليس لعرق ظالم حق } لكن هذا مجمل ومفهومه الأول أنه ليس له منفعة متولدة بين ماله وبين الشيء الذي غصبه أعني ماله المتعلق بالمغصوب . ا هـ .

وأما إن جاء بها ناقصة القيمة في بعض المواطن فلا يضمن لأن الفائت رغبات الناس وهي غير مقومة في الشرع ولا قائمة بالعين وتجبر الأموال المثلية بأمثالها لأن المثل أقرب إلى رد العين الذي هو الأصل من القيمة وقد خولفت هذه القاعدة في صورتين في لبن المصراة لأجل اختلاط لبن البائع بلبن المشتري وعدم تمييز المقدار وفيمن غصب ماء في المعاطش فإن جماعة من العلماء يضمنونه القيمة في محل غصبه وبالجملة فلا تجبر الأموال إلا بالمال وأما المنافع فإنها محرمة فلا تجبر احتقارا لها كالمزمار ونحوه كما لا تجبر النجاسات من الأعيان نعم استثنوا من ذلك مهر المزني بها كرها تغليبا لجانب المرأة فإنها لم تأت محرما والظالم أحق أن يحمل عليه ولأنه كالغاصب لسكنى دار ولم يجبر اللواط لأنه لم يقوم قط في الشرع فأشبه القبلة والعناق وإما غير محرمة فإن كانت منافع جسم الحر [ ص: 213 ] فلا تضمن لأن يده على منافعه فلا يتصور فواتها في يد غيره وإن كانت منافع الأبضاع ضمنت بالعقد الصحيح والفاسد والشبهة والإكراه ولا تجبر بالفوات تحت الأيدي العادية والفرق أن قليل المنافع يجبر بالقليل من الجابر وكثيرها بكثيره وضمان البضع بمهر المثل وهو يستحق بمجرد الإيلاج فلو جبر بالفوات لوجب ما لا يمكن ضبطه فضلا عن القدرة عليه فإن كل ساعة يفوت فيها من الإيلاجات شيء كثير جدا وإيجاب مثل هذا بعيد من قواعد الشرع وإن كانت منافع غير ما ذكر ضمنت بالعقود الصحيحة والفاسدة والفوات تحت الأيدي المبطلة .

قلت وأما النفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح فما رتبه صاحب الشرع عليها من ديات أو كفارات أو حكومة فجوابر وما رتبه صاحب الشرع عليها من قصاص أو ضرب أو سجن أو تأديب فزواجر فمن هنا قال الأصل وأما النفوس فإنها خارجة عن هذه القوانين لمصالح تذكر في الجنايات ففي تبصرة ابن فرحون ولا خلاف في أن قتل النفس حرام وقد شرع فيه إذا وجد سببه وشرطه وانتفى مانعه القصاص للحكمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } ا هـ ( وصل ) في ثلاث مسائل تتعلق بالزواجر ( المسألة الأولى )

قال مالك رحمه الله تعالى إذا شرب الحنفي يسير النبيذ أحده ولا أقبل شهادته لأن إباحة اليسير من النبيذ على خلاف القياس الجلي على الخمر لجامع الإسكار المقتضي تحريمه وعلى خلاف النصوص الصريحة كقوله عليه الصلاة والسلام { ما أسكر كثيره فقليله حرام } وعلى خلاف القواعد المقتضية صيانة العقول ومنع التسبب لإفسادها والحكم الذي يكون على خلاف هذه الأمور إذا قضى به القاضي ينقض قضاؤه ولا نقره شرعا مع التأكيد لقضاء القاضي فأولى أن لا نقره شرعا مع عدم التأكيد وما لا يقر شرعا ليس فيه تقليد ولا اجتهاد مقبول شرعا ومن أتى المفسدة بغير تقليد صحيح أو اجتهاد معتبر فهو عاص فنحده للمعصية والمفسدة ولهذه العلة لا أقبل شهادته لفسقه حينئذ بالمعصية .

وقال الشافعي أحده وأقبل شهادته أما قبول شهادته فلأنه مقلد أو مجتهد وكلاهما غير عاص لأن حكم الله تعالى عليهما ما أدى إليه الاجتهاد وأما حده فلدرء المفسدة في التسبب لإفساد العقل إذ التأديب قد يكون مع عدم المعصية بل لأجل المفسدة كتأديب الصبيان والبهائم وفيه أنا لا نسلم أن كل تأديب قد يكون مع عدم المعصية حتى تتم كلية الكبرى المشروطة في إنتاج الشكل الأول بل التأديب إما مقدر وهو الحدود كما هنا فلا يكون في غير معصية وإما غير مقدر فيكون في غير معصية ولا يفيد في هذه المسألة فافهم ( لطيفة ) في شرح المجموع وضوء الشموع للعلامة الأمير اشتهر بين أهل الأدب وإن لم يخل شرعا عن قلة أدب . قول ابن الرومي كما في حلبة الكميت

أحل العراقي النبيذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر وقال الحجازي الشرابان واحد
فحلت لنا من بين قوليهما الخمر

أراد الخمر نبيذ والنبيذ حلال فالصغرى من الاتحاد عندنا والكبرى من الحنفية وإنما فسد القياس المشار إليه لأن شرطه كلية الكبرى والحنفية لا يقولون بالكلية بل يخصون البعض الذي لم يسكر ا هـ [ ص: 214 ]

( المسألة الثانية ) اتفق فقهاء أهل العصر على المنع من النبات المعروف بالحشيشة التي يتعاطاها أهل الفسوق أعني كثيرها المغيب للعقل واختلفوا بعد ذلك في كونها مفسدة للعقل من غير سكر فتكون طاهرة ويجب فيها التعزير أو مسكرة فتكون نجسة ويجب فيها الحد قولان الأول للأصل قال والذي أعتقده أنها من المفسدات لا من المسكرات فلا أوجب فيها الحد ولا أبطل بها الصلاة بل التعزير الزاجر عن ملابستها لوجهين أحدهما أنا نجدها تثير الخلط الكامن في الجسد كيفما كان فصاحب الصفراء تحدث له حدة وصاحب البلغم تحدث له سباتا وصمتا وصاحب السوداء تحدث له بكاء وجزعا وصاحب الدم تحدث له سرورا بقدر حاله فتجد منهم من يشتد بكاؤه .

ومنهم من يشتد صمته وأما الخمر والمسكرات فلا تكاد تجد أحدا ممن يشربها إلا وهو نشوان مسرور بعيد عن البكاء والصمت

وثانيهما أنا نجد شراب الخمر تكثر عربدتهم ووثوب بعضهم على بعض بالسلاح ويهجمون على الأمور العظيمة التي لا يهجمون عليها حالة الصحو حتى إن القتلى يوجدون كثيرا معهم ولا تجد أكلة الحشيشة إذا اجتمعوا يجري منهم شيء من ذلك ولم يسمع عنهم من العوائد ما يسمع عن شراب الخمر بل هم همدة سكوت مسبوتون لو أخذت قماشهم أو سببتهم لم تجد فيهم قوة البطش التي تجدها في شربة الخمر بل هم أشبه شيء بالبهائم فلذا لا تجد القتلى معهم قط ا هـ بتصرف ووافقه الأمير في مجموعه قال ومنه أي المفسد الذي يغيب العقل فقط لا يفرح وهو المخدر الحشيشة وفاقا للقرافي لغلبة الذلة والمسكنة على أهلها انتهى والثاني للمنوفي قال يبيعون لها بيوتهم فدل على أن لهم بها طربا وفرحا كما في شرح المجموع للعلامة الأمير وفي الأصل ونصوص المتحدثين على النباتي تقتضي أنها مسكرة فإنهم يصفونها بذلك في كتبهم ا هـ وفي حاشية ابن حمدون ومقتضى كلام الشيخ أبي الحسن في شرح المدونة أنها من المفسدات كما اختاره القرافي وهو الصحيح خلاف ما للمنوفي قال ابن مرزوق لأن إتلاف الأموال فيها إنما يدل على أنهم يجدون فيها لذة ما وأما تعيين كونها تحدث الطرب المماثل لطرب الخمر فلا إذ الأعم لا إشعار له بأخص معين . ا هـ .

وعلى القول الثاني ففي كونها لا تسكر إلا بعد مباشرة النار أو كونها تسكر مطلقا قولان الأول للمقري في قواعده قال وذلك أي كونها مسكرة ونجسة بعد غليها لا قبله فظاهره ا هـ وعليه ما في الأصل سئل بعض فقهاء العصر عمن صلى بالحشيشة معه هل تبطل صلاته أم لا فأفتى أنه إن صلى بها قبل أن تحمص أو تسلق صحت صلاته أو بعد ذلك بطلت صلاته معللا أنها إنما تغيب العقل بعد التحميص أو السلق أما قبل ذلك وهي ورق أخضر فلا بل هي كالعصير الذي للعنب وتحميصها كغليانه ا هـ والثاني لبعضهم قال وإنما تحمص لإصلاح طعمها وتعديل كيفيتها خاصة انتهى وعليه فتبطل الصلاة مع حملها مطلقا كما تصح الصلاة بها مطلقا على القول بأنها مفسدة للعقل من غير سكر كالبنج والسيكران وجوزة بابل

( المسألة الثالثة ) قال إمام الحرمين القاعدة أن التأديبات إنما تكون على قدر الجنايات فكلما عظمت الجناية عظمت العقوبة فإذا فرض شخص [ ص: 215 ] من الجناة لا يؤثر فيه التأديب اللائق بجنايته ردعا وإنما يؤثر فيه كالقتل لا يجوز أن يكون عقوبة لتلك الجناية فإن هذا الجاني يسقط تأديبه مطلقا أما المناسب فيسقط لعدم الفائدة فيه والإيلام مفسدة لا تشرع إلا لتحصيل مصلحة فحيث لا مصلحة لا تشرع وأما غير المناسب فلعدم سبب المبيح فيسقط تأديبه مطلقا وهو متجه اتجاها قويا والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية