الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا ينقطع التتابع بخروج بعض بدنه كان صلى الله عليه وسلم يدني رأسه فترجله عائشة رضي الله عنها وهي في الحجرة

التالي السابق


ثم قال المصنف : (ولا ينقطع التتابع بخروج بعض البدن ) اعلم أنه من جملة شروط التتابع الخروج بكل البدن عن كل المسجد بغير عذر وفيه ثلاثة قيود :

أحدها : كون الخروج بكل البدن والقصد به الاحتراز عما إذا أخرج يده أو رأسه فلا يبطل اعتكافه واحتجوا له بما روي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني رأسه) إلى عائشة (فترجله عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها) وهو معتكف (وهي في الحجرة) ولو أخرج إحدى رجليه أو كليهما وهو قاعد مادا لهما وكذلك إن اعتمد عليهما فهو خارج .

الثاني : كون الخروج من كل المسجد والقصد به الاحتراز عما إذا صعد المنارة للأذان وللمنارة حالتان : إحداهما : أن يكون بابها في المسجد أو رحبته المتصلة به فلا بأس بصعودها للأذان وغيره كصعود سطح المسجد ولا فرق بين أن تكون على تربيع وسمت المسجد أو الرحبة وبين أن تكون خارجة عن سمت البناء وتربيعه والثانية : أن لا يكون بابها في المسجد ولا رحبته المتصلة به فهل يبطل اعتكاف المؤذن الراتب بصعودها للأذان ؟ فيه وجهان : أظهرهما نعم .

الثالث : الفرق بين الراتب وغيره قال صاحب التهذيب وغيره وهو الأصح .



(تنبيه)

الحديث الذي أورده المصنف فيه فوائد :

الأولى : أخرجه النسائي من طريق عبد الرزاق وأخرجه البخاري من طريق هشام وهو ابن يوسف الصنعائي كلاهما عن معمر وأخرجه الأئمة الستة من طريق الليث بن سعد والترمذي والنسائي أيضا من طريق مالك ثلاثتهم عن الزهري كلهم بلفظ : أنها كانت ترجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو معتكف يناولها رأسه وهي في حجرتها وهو في المسجد ، ورواه عن الزهري أيضا غير واحد وله عن عائشة طرق أخرى في الصحيحين وغيرهما وفي رواية الليث عند الأئمة الستة وكذا في رواية الترمذي من طريق مالك عن عروة وعمرة كلاهما عن عائشة وأخرج مسلم في صحيحه وغيره رواية مالك وفيها عن عروة عن عمرة فهذه ثلاثة أوجه من الاختلاف فيه على مالك : هل رواه الزهري عن عروة أو عن عروة وعمرة أو عن عروة عن عمرة ؟ وقال الترمذي هكذا روى غير واحد عن مالك يعني عن عروة وعمرة وروى بعضهم عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة وهكذا روى الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة خبر مالك وعبيد الله بن عمر وقال أبو داود ولم يتابع أحد مالكا على عروة عن عمرة وقال الدارقطني في العلل رواه عبيد الله بن عمرو وأبو أويس عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة وكذلك رواه مالك في الموطأ رواه عنه القعنبي ويحيى بن يحيى يعني النيسابوري ومعن بن عيسى وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وروح بن عبادة وخالد بن مخلد ومنصور بن سلمة وإسحاق بن الطباع وخالفهم عبد الرحمن بن مهدي [ ص: 241 ] والوليد بن مسلم بن خالد والحجبي فرووه عن مالك عن الزهري عن عمرة عن عائشة ولم يذكر فيه عروة وروي عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون فوهم فيه وهما قبيحا فقال عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن عروة عن عمرة عن عائشة ورواه ابن وهب عن مالك والليث بن سعد ويونس بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة قال ابن عبد البر أدخل حديث بعضهم في بعض وإنما يعرف جمع عروة وعمرة ليونس والليث لا لمالك وكذا قال البيهقي كأنه حمل رواية مالك على رواية الليث ويونس ثم قال الدارقطني وكذلك قال شبيب بن سعيد عن يونس وكذا قال القعنبي وابن رمح عن الليث عن الزهري وكذا قال عبد العزيز عن الحصين عن الزهري كلهم قالوا عن عروة وعمرة عن عائشة ورواه زياد بن سعيد والأوزاعي ومحمد بن إسحاق ومحمد بن ميسرة وهو ابن أبي حفصة وسفيان بن حسين وعبد الله بن بديل بن ورقاء عن الزهري عن عروة عن عائشة وقال ابن عبد البر كذا رواه جمهور رواة الموطأ عن عروة عن عمرة وهو المحفوظ لمالك عند أكثر رواته وقال أكثر أصحاب ابن شهاب عنه عن عروة عن عائشة ثم حكي عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال قلت : لمالك عن عروة عن عمرة وأعدت عليه فقال الزهري : عن عروة عن عمرة أو الزهري عن عمرة ثم حكى ابن عبد البر عن محمد بن يحيى الذهلي أنه ذكره في علل حديث الزهري عن جماعة من أصحابه منهم يونس والأوزاعي والليث ومعمر وسفيان بن حسين والزبيدي ثم قال اجتمع هؤلاء كلهم على خلاف مالك فجمع يونس والليث عروة وعمرة واجتمع معمر والأوزاعي وسفيان بن حسين على عروة عن عائشة قال والمحفوظ عندنا حديث هؤلاء قال والذي أنكر على مالك ذكره عمرة لا غير لأن ترجيل عائشة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو معتكف لا يوجد إلا في حديث عروة وحده .

قال الولي العراقي : وجد من حديث عمرة أيضا ، وقد تقدم أن جماعة رووه عنهما وهو في الصحيحين من طريق الليث عنهما كما تقدم قال ابن عبد البر وقد رواه عنه ابنه هشام بن عروة عن أبيه كلاهما في الصحيحين من طريق الليث عنهما كما تقدم قال ابن عبد البر وقد رواه عنه ابن هشام وتميم بن سلمة وفي حديثهما : وأنا حائض وليس ذلك في حديث الزهري من وجه يثبت قال الولي العراقي في الرواية التي تقدم ذكرها من صحيح البخاري من طريق معمر عن الزهري فيهما وهي حائض وقد رواه غير البخاري أيضا بهذا اللفظ والله أعلم قال ابن عبد البر وقد رواه الأسود بن يزيد عن عائشة مثل رواية هارون سواء إلا في حديث الأسود : يخرج إلي رأسه ، وفي حديث عروة : يدلي ، قال العراقي : رواية الأسود وهشام بن عروة عن أبيه كلاهما في الصحيحين وقد رواه عن عروة أيضا وفيه وأنا حائض محمد بن عبد الرحمن ونوفل رواه مسلم في صحيحه وغيره .



الثانية : في الحديث فترجله أي : تسرح وهو على حذف مضاف أي : شعر رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففيه محذوفان كما قيل في قوله تعالى : فقبضت قبضة من أثر الرسول أي : من أثر حافر فرس الرسول ، وقال في النهاية تبعا للهروي الترجيل تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه وقال في المشارق رجل شعره أي : مشطه وأرسله ثم قال الجوهري : الترجيل بل الشعر ثم يمشط ، قلت : ليس هو في الصحاح وجزم به ابن عبد البر .



الثالثة : فيه استحباب تسريح الشعر وإذا لم يترك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك في زمن الاعتكاف مع قصره واشتغاله بالعبادة فغيره أولى .

الرابعة : لفظ الحديث متعين لتسريح شعر الرأس وفي بعض ألفاظ هذا الحديث ما يدل على احتمال تسريح شعر اللحية أيضا وروى الترمذي في الشمائل بإسناد ضعيف من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر دهن الرأس وتسريح لحيته لكن ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكل تسريح لحيته إلى أحد وإنما كان يتعاطى ذلك بنفسه بخلاف شعر الرأس فإنه يعسر مباشرة تسريحه ولا سيما في مؤخره فلذا كان يستعين بزوجاته .



الخامسة : فيه أن الاشتغال بتسريح الشعر لا ينافي الاعتكاف قال الخطابي وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظافر وتنظيف البدن من الشعث والدرن . أهـ .

ويؤخذ من ذلك فعل سائر الأمور المباحة كالأكل والشرب وكلام الدنيا وعمل الصنعة من [ ص: 242 ] خياطة وغيرها وصرح به أصحاب الشافعي وأصحابنا كما تقدم وعن مالك رحمه الله تعالى أنه لا يشتغل في مجالس العلم ولا يكتبه وإن لم يخرج من المسجد والجمهور على خلافه وهذا الحديث يرد عليه فإن الاشتغال بالعلم وكتابته أهم من تسريح الشعر ، وقد تقدم ذلك أيضا .



السادسة : فيه أن مماسة المعتكف النساء ومماستهن له إذا كان ذلك من غير شهوة لا ينافي اعتكافه وهو كذلك بلا خلاف فإن كان بشهوة فهو حرام وهل يبطل به الاعتكاف ينظر فإن اقترن به إنزال أبطل الاعتكاف وإلا فلا هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وقال مالك : يبطل به وإن لم ينزل وأما الجماع في الاعتكاف فهو حرام مفسد له بالإجماع مع التعمد فإن كان ناسيا فقال الشافعي : لا يفسد وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد يفسد ، وقد تقدم ذلك أيضا .



السابعة : قال ابن عبد البر فيه أن اليدين من المرأة ليستا بعورة ولو كانتا عورة ما باشرته بهما في اعتكافه لأن المعتكف ينهى عن المباشرة قال الله عز وجل : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد واعترضه الحافظ العراقي في شرح الترمذي : فقال إن كانت المباشرة المنهي عنها تختص بالعورة فلو قبل المعتكف لم يكن بذلك آتيا لما نهي عنه لأن الوجه ليس بعورة وهو لا يقول به فإن مذهب إمامه أن القبلة مبطلة الاعتكاف أما من يحمل المباشرة على الجماع فلا إشكال في أنه غير مبطل إلا أن يتصل به الإنزال فالمرجح حينئذ عند الشافعي البطلان .

الثامنة : فيه أنه لا بأس باستخدام الزوجة في مثل ذلك وأنه ليس فيه نقص ولا هتك حرمة ولا إضرار بها وقال النووي في شرح مسلم : فيه جواز استخدام الزوجة في الغسل والطبخ والخبز وغيرها برضاها وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة وعمل السلف وإجماع الأمة وأما بغير رضاها فلا يجوز لأن الواجب عليها تمكين الزوج من نفسها وملازمة بيته فقط . أهـ . .

قال الولي العراقي : وهذا الذي ذكره إنما هو بطريق القياس فإنه ليس منصوصا وشرط القياس مساواة الفرع للأصل وفي الفرع هنا زيادة مانعة من الإلحاق وهي المشقة الحاصلة من الغسل والطبخ ونحوهما فلا يلزم من استخدامها في الأمر الخفيف احتمال ذلك في الثقيل الشديد ولسنا ننكر هذا الحكم فإنه متفق عليه وإنما الكلام في الاستدلال من الحديث ، والله أعلم . وقد يقال : إنه من باب قياس أدون كقياس الأرز على الحنطة في الربا فتأمل .



التاسعة : استدل به الخطابي على أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلا لغائط أو بول ووجهه أنه لو جاز له الخروج لغير ذلك لما احتاج إلى إخراج رأسه من المسجد خاصة ولكان يخرج بجملته ليفعل حاجته من تسريح رأسه في بيته وقد يقال هذا فعل لا يدل على الوجوب وجوابه أنه بين به الاعتكاف المذكور في القرآن وذلك يدل على أن هذه طريقة الاعتكاف وهيئته المشروعة .

العاشر : فيه أن إخراج الرأس من المسجد لا يبطل به الاعتكاف كما استدل به المصنف ويقاس به بقية الأعضاء وقال الأسنوي في المهمات أو اضطجع وأخرج بعض بدنه فيحتمل اعتبار الأكثر بالمساحة ويتجه اعتباره بالفعل .

الحادية عشرة : هذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها لم تكن تعتكف معه كلما كان يعتكف وهو كذلك وقد تبين بالروايات الأخر أنها كانت حينئذ حائضا ولعل ذلك هو المانع من اعتكافها .

الثانية عشرة : لفظ الحديث عند المصنف : وهي في الحجرة ، وفي رواية أخرى : وهي في حجرتها فإضافة الحجرة إلى عائشة -رضي الله عنها- باعتبار سكنها بها وإلا فهي للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا قوله تعالى : واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ، والله أعلم .




الخدمات العلمية