الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب إبطال الاستحسان

( قال الشافعي ) وكل ما وصفت مع ما أنا ذاكر وساكت عنه اكتفاء بما ذكرت منه عما لم أذكر من حكم الله ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم

، ثم حكم المسلمين دليل على أن لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكما أو مفتيا أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر لازم وذلك الكتاب ثم السنة أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا لا يجوز له أن يحكم ولا يفتي بالاستحسان إذ لم يكن الاستحسان واجبا ولا في واحد من هذه المعاني ، فإن قال قائل فما يدل على أن لا يجوز أن يستحسن إذا لم يدخل الاستحسان في هذه المعاني مع ما ذكرت في كتابك هذا ؟ قيل قال الله عز وجل { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } فلم يختلف أهل العمل بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى ومن أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معاني السدى وقد أعلمه الله أنه لم يتركه سدى ورأى أن قال أقول بما شئت وادعى ما نزل القرآن بخلافه في هذا وفي السنن فخالف منهاج النبيين وعوام حكم جماعة من روى عنه من العالمين ، فإن قال فأين ما ذكرت من القرآن ومنهاج النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين ؟ قيل قال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام { اتبع ما أوحي إليك من ربك } وقال { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } الآية ثم جاءه قوم فسألوه عن أصحاب الكهف وغيرهم فقال أعلمكم غدا يعني أسأل جبريل ثم أعلمكم فأنزل الله عز وجل { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } الآية وجاءته امرأة أوس بن الصامت تشكو إليه أوسا فلم يجبها حتى أنزل الله عز وجل { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } وجاءه العجلاني يقذف امرأته قال لم ينزل فيكما وانتظر الوحي فلما نزل دعاهما فلاعن بينهما كما أمره الله عز وجل وقال لنبيه { أن احكم بينهم بما أنزل الله } وقال عز وجل { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } الآية .

وليس يؤمر أحد أن يحكم بحق إلا وقد علم الحق ولا يكون الحق معلوما إلا عن الله نصا أو دلالة من الله فقد جعل الله الحق في كتابه ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فليس تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب يدل عليها نصا أو جملة ، فإن قال وما النص والجملة ؟ قيل النص ما حرم الله وأحل نصا حرم الأمهات والجدات والعمات والخالات ومن ذكر معهن وأباح من سواهن وحرم الميتة والدم [ ص: 314 ] ولحم الخنزير والفواحش ما ظهر منها وما بطن وأمر بالوضوء فقال { اغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية فكان مكتفى بالتنزيل في هذا عن الاستدلال فيما نزل فيه مع أشباه له ، فإن قيل فما الجملة ؟ قيل ما فرض الله من صلاة وزكاة وحج فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف الصلاة وعددها ووقتها والعمل فيها وكيف الزكاة وفي أي المال هي وفي أي وقت هي وكم قدرها وبين كيف الحج والعمل فيه وما يدخل فيه وما يخرج به منه ( قال الشافعي ) : فإن قيل فهل يقال لهذا كما قيل للأول قبل عن الله ؟ قيل نعم ، فإن قيل فمن أين قيل ؟ قبل عن الله لكلامه جملة وقبل تفسيره عن الله بأن الله فرض طاعة نبيه فقال عز وجل { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وقال { من يطع الرسول فقد أطاع الله } مع ما فرض من طاعة رسوله ، فإن قيل فهذا مقبول عن الله كما وصفت فهل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي ؟ قيل الله أعلم أخبرنا مسلم بن خالد عن طاوس قال الربيع هو عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن عنده كتابا من العقول نزل به الوحي .

( قال الشافعي ) وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط إلا بوحي فمن الوحي ما يتلى ومنه ما يكون وحيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستن به أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ولا شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه وإنالروح الأمين قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها فأحملوا في الطلب } ( قال الشافعي ) وقد قيل ما لم يتل قرآنا إنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله فكان وحيا إليه وقيل جعل الله إليه لما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم أن يسن وأيهما كان فقد ألزمهما الله تعالى خلقه ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن لهم وفرض عليهم اتباع سنته ( قال الشافعي ) : فإن قال قائل فما الحجة في قبول ما اجتمع الناس عليه ؟ قيل لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين لم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا لزوم قول جماعتهم وكان معقولا أن جماعتهم لا تجهل كلها حكما لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم وأن الجهل لا يكون إلا في خاص وأما ما اجتمعوا عليه فلا يكون فيه الجهل فمن قبل قول جماعتهم فبدلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قولهم .

( قال الشافعي ) رحمه الله وإن قال قائل أرأيت ما لم يمض فيه كتاب ولا سنة ولا يوجد الناس اجتمعوا عليه فأمرت بأن يؤخذ قياسا على كتاب أو سنة أيقال لهذا قبل عن الله ؟ قيل نعم قبلت جملته عن الله ، فإن قيل ما جملته ؟ قيل الاجتهاد فيه على الكتاب والسنة ، فإن قيل أفيوجد في الكتاب دليل عن ما وصفت ؟ قيل نعم نسخ الله قبلة بيت المقدس وفرض على الناس التوجه إلى البيت فكان على من رأى البيت أن يتوجه إليه بالعيان وفرض الله على من غاب عنه البيت أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام لأن البيت في المسجد الحرام فكان المحيط بأنه أصاب البيت بالمعاينة والمتوجه قصد البيت ممن غاب عنه قابلين عن الله معا التوجه إليه وأحدهما على الإحاطة والآخر متوجه بدلالة فهو على إحاطة من صواب جملة ما كلف وعلى غير إحاطة كإحاطة الذي يرى البيت من صواب البيت ولم يكلف الإحاطة ( قال الشافعي ) : فإن قيل فيم يتوجه إلى البيت ؟ قيل قال الله تعالى { هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } وقال { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } وكانت العلامات جبالا يعرفون مواضعها من الأرض وشمسا وقمرا ونجما مما يعرفون من الفلك ورياحا يعرفون مهابها على الهواء تدل على قصد البيت الحرام فجعل عليهم طلب الدلائل على شطر المسجد الحرام فقال { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وكان معقولا [ ص: 315 ] عن الله عز وجل أنه إنما يأمرهم بتولية وجوههم شطره بطلب الدلائل عليه لا بما استحسنوا ولا بما سنح في قلوبهم ولا خطر على أوهامهم بلا دلالة جعلها الله لهم لأنه قضى أن لا يتركهم سدى وكان معقولا عنه أنه إذا أمرهم أن يتوجهوا شطره وغيب عنهم عينه أن لم يجعل لهم أن يتوجهوا حيث شاءوا لا قاصدين له بطلب الدلالة عليه .

( قال الشافعي ) وقال الله عز وجل { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال { ممن ترضون من الشهداء } فكان على الحكام أن لا يقبلوا إلا عدلا في الظاهر وكانت صفات العدل عندهم معروفة وقد وصفتها في غير هذا الموضع وقد يكون في الظاهر عدلا وسريرته غير عدل ولكن الله لم يكلفهم ما لم يجعل لهم السبيل إلى عمله ولم يجعل لهم إذ كان يمكن إلا أن يردوا من ظهر منه خلاف العدل عندهم وقد يمكن أن يكون الذي ظهر منه خلاف العدل خيرا عند الله عز وجل من الذي ظهر منه العدل ولكن كلفوا أن يجتهدوا على ما يعلمون من الظاهر الذي لم يؤتوا أكثر منه .

( قال الشافعي ) وقال الله جل ثناؤه { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } فكان معقولا عن الله في الصيد النعامة وبقر الوحش وحماره والثيتل والظبي الصغير والكبير والأرنب واليربوع وغيره ومعقولا أن النعم الإبل والبقر والغنم وفي هذا ما يصغر عن الغنم وعن الإبل وعن البقر فلم يكن المثل فيه في المعقول وفيما حكم به من حكم من صدر هذه الأمة إلا أن يحكموا في الصيد بأولى الأشياء شبها منه من النعم ولم يجعل لهم إذ كان المثل يقرب قرب الغزال من العنز والضبع من الكبش أن يبطلوا اليربوع مع بعده من صغير الغنم وكان عليهم أن يجتهدوا كما أمكنهم الاجتهاد وكل أمر الله جل ذكره وأشبه لهذا تدل على إباحة القياس وحظر أن يعمل بخلافه من الاستحسان لأن من طلب أمر الله بالدلالة عليه فإنما طلبه بالسبيل التي فرضت عليه ومن قال أستحسن لا عن أمر الله ولا عن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يقبل عن الله ولا عن رسوله ما قال ولم يطلب ما قال بحكم الله ولا بحكم رسوله ، وكان الخطأ في قول من قال هذا ، بينا بأنه قد قال : أقول وأعمل بما لم أومر به ولم أنه عنه وبلا مثال على ما أمرت به ونهيت عنه وقد قضى الله بخلاف ما قال فلم يترك أحدا إلا متعبدا .

( قال الشافعي ) في قول الله عز وجل { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } إن من حكم أو أفتى بخير لازم أو قياس عليه فقد أدى ما عليه وحكم وأفتى من حيث أمر فكان في النص مؤديا ما أمر به نصا وفي القياس مؤديا ما أمر به اجتهادا وكان مطيعا لله في الأمرين .

ثم لرسوله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بطاعة الله ثم رسوله

، ثم الاجتهاد فيروى { أنه قال لمعاذ بم تقضي ؟ قال بكتاب الله قال ، فإن لم يكن في كتاب الله قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فإن لم يكن قال أجتهد قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم } وقال : { إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر } فأعلم أن للحاكم الاجتهاد والمقيس في موضع الحكم

التالي السابق


الخدمات العلمية