الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفرق بين الكافر، والفاسق في كل ملة

فمن جملة ذلك: أنه قد بين الفرق بين المتدين الفاسق، والكافر الجاحد في كل ملة، وأثبت العذاب الشديد والخلود للكافر، وجوز خروج الفاسق من النار بشفاعة الأنبياء، وأظهر في تقرير هذا المعنى اسم المتدين في كل ملة بتلك الملة، وأثبت في التوراة هذه المنزلة لليهودي، والعبري، وفي الإنجيل للنصراني، وفي القرآن العظيم للمسلمين.

ومناط الحكم: الإيمان بالله واليوم الآخر، والانقياد لنبي بعث إليهم، والعمل بشرائع الملة، واجتناب المنهيات من تلك الملة، لا خصوص فرقة من الفرق لذاتها.

فحسب اليهود أن اليهودي والعبري يدخلان الجنة البتة، وينقذه شفاعة الأنبياء من النار، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة:80]، ولو لم يتحقق مناط الحكم، ولو كان مؤمنا بالله بوجه غير صحيح، ولو لم يكن له حظ من الإيمان بالآخرة، وبرسالة النبي المبعوث إليه، وهذا غلط صرف وجهل محض.

ولما كان القرآن العظيم مهيمنا على الكتب السالفة، ومبينا لمواضع الإشكال فيها، كشف الغطاء عن هذه الشبهة على وجه أتم بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة: 81].

ومن جملة ذلك: أنه قد بين في كل ملة أحكاما تناسب مصالح ذلك العصر.

وقد سلك في التشريع مسلك عادات القوم، وأمر بالأخذ بها، وإدامة [ ص: 85 ] الاعتقاد والعمل عليها تأكيدا بحصر الحقيقة فيها، والمراد: أن الحقيقة محصورة فيها في ذلك العصر، وذلك الزمان، والمراد هنالك: الإدامة الظاهرية، لا الإدامة الحقيقية.

يعني: ما لم يأت نبي آخر، ولم يكشف الغطاء عن وجه النبوة.

وهم حملوا ذلك على استحالة نسخ اليهودية، ومعنى وصية الأخذ بتلك الملة في الحقيقة: وصية بالإيمان، والأعمال الصالحة، ولم تعتبر خصوصية تلك الملة لذاتها.

وهؤلاء اعتبروا الخصوصية، فظنوا أن يعقوب -عليه السلام- وصى أولاده باليهودية.

إطلاق الابن على المحبوب

ومن جملة ذلك: أن الله -عز وجل- شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملة بلقب المقرب والمحبوب، وذم الذين ينكرون الملة بصفة المغضوبية، وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم.

فلا عجب أن يكون قد ذكر لفظ «الأبناء» مقام المحبوبين.

فظن اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهودي، والعبري، والإسرائيلي، ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد، والخضوع، وتمشية ما أراد الحق سبحانه ببعثة الأنبياء لا غير.

وكان أن ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم، وأجدادهم، فأزال القرآن الكريم هذه الشبهات على وجه أتم.

التالي السابق


الخدمات العلمية