الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الرابع والمائة بين قاعدة أن الفعل متى دار بين الوجوب والندب فعل ومتى دار بين الندب والتحريم ترك تقديما للراجح على المرجوح ، وبين قاعدة يوم الشك هل هو من رمضان أم لا )

فإنه يحرم صومه مع أنه إن كان من شعبان فهو مندوب وإن كان من رمضان فهو واجب فكان ينبغي أن يتعين صومه ، وبهذه القاعدة تمسك الحنابلة في صومه على وجه الاحتياط وهو ظاهر من هذه القاعدة ، ووافقنا الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما .

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصومه احتياطا لهذه القاعدة ثم إنا ناقضنا قاعدتنا فقلنا من شك في الفجر لا يأكل ويصوم مع أنه شاك في طريان الصوم كما شك أول الشهر في طريان الصوم فيهما سواء فإن قلنا بالصوم في الثاني دون الأول فهو إشكال آخر ، ويحتاج إلى الفروق القادحة المعتبرة في الموضعين [ ص: 187 ] أما الأول فالجواب عنه وهو الفرق المقصود هاهنا أن صوم يوم الشك عندنا دائر بين التحريم والندب فتعين الترك إجماعا على هذا التقدير ، وإنما قلنا إنه دائر بين التحريم والندب ؛ لأن النية الجازمة شرط وهي هاهنا متعذرة ، وكل قربة بدون شرطها حرام فصوم هذا اليوم حرام فإن كان من رمضان فهو حرام لعدم شرطه ، وإن كان من شعبان فهو مندوب فقد تبين أنه دائر بين التحريم والندب لا بين الوجوب والندب ، وهذا هو الفرق ومما يدل على تحريمه ما ورد في الحديث { من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم } .

وأما الثاني فالجواب عنه أن رمضان عبادة واحدة وإنما الأكل بالليل رخصة لقوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } والأمر ظاهر في صوم جميع الشهر فالأصل في الليل الصوم ، وكذلك كان في صدر الإسلام ثم رخص فيه فكان من نام لا يحل له بعد ذلك وطء امرأته حتى نزل قوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من [ ص: 188 ] الخيط الأسود من الفجر } ، فأباح الله تعالى المفطرات إلى هذه الغاية رخصة ، وإذا كان الأصل في الليل الصوم ثم استثني منه الليل المتيقن بقي المشكوك فيه على وفق الأصل فلذلك قلنا بوجوب صومه ، وشعبان الأصل فيه الفطر على عكس ليل رمضان فنفطره حتى نتيقن موجب الصوم فهو عكس ليل الصوم فظهر الجواب والفرق ومن هذا المنزع إذا شك هل صلى ثلاثا أو أربعا فإنه يصليها مع أنها دائرة بين الرابعة الواجبة والخامسة المحرمة ، وإذا تعارض الواجب والمحرم قدم المحرم ؛ لأن التحريم يعتمد المفاسد .

والوجوب يعتمد المصالح وعناية صاحب الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بتحصيل المصالح ، وكذلك إذا شك في وضوئه هل هي ثانية أو ثالثة فإنه يتوضأ ثالثة مع دورانها بين الثالثة المندوبة والرابعة المحرمة وهاهنا الترك أظهر من الشك في الصلاة ؛ لأن المندوب أخفض رتبة من الواجب .

والجواب عن الأول أنه موضع اتفاق فيما علمت بخلاف الوضوء لأن التحريم في الخامسة مشروط بتيقن الرابعة أو ظنها ، ولم يحصل ذلك فلم يحصل التحريم بل استصحب الوجوب من الدليل الدال على وجوب الأربع [ ص: 189 ] وهو الإجماع والنصوص .

وأما التحريم في الوضوء في الرابعة فمشروط أيضا بتيقن الثالثة أو ظنها ولم يحصل فاستصحب الندب الناشئ عن الدليل الدال على الثلاث وهو فعله صلى الله عليه وسلم ، وقوله في ذلك فهذه قواعد في العبادات ينبغي الإحاطة بها لئلا تضطرب القواعد وتظلم على طالب العلم .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الرابع والمائة بين قاعدة أن الفعل متى دار بين الوجوب والندب فعل ، ومتى دار بين التحريم والندب ترك تقديما للراجح على المرجوح ، وبين قاعدة يوم الشك هل هو من رمضان أو لا فإنه يحرم صومه مع أنه إن كان من شعبان فهو مندوب ، وإن كان من رمضان فهو واجب فكان ينبغي أن يتعين صومه إلى قوله : ويحتاج إلى الفروق القادحة المعتبرة في الموضعين ) . قلت [ ص: 187 ] قوله مع أنه إن كان من شعبان فهو مندوب ليس بمسلم بل هو من شعبان لا على القطع بل على الشك ، وهو ممنوع الصوم للنهي عنه الوارد في الحديث ، وعلى هذا الإشكال في قولنا بالمنع من صومه ، أما على قول الحنابلة فصومه على وجه الاحتياط فجار على قاعدة الفرق المذكور ، وذلك والله أعلم لعدم صحة الحديث عندهم .

قال : ( أما الأول فالجواب عنه وهو الفرق المقصود هاهنا إلى قوله { فقد عصى أبا القاسم } ) قلت : ما قاله من أنه دائر بين التحريم لتعذر النية الجازمة وبين الندب ليس بمسلم من جهة أن لقائل أن يقول ليست النية الجازمة شرطا إلا مع عدم تعذرها ، وما ذكره لم يأت عليه بحجة فلا يبقى إلا الحديث إن صح .

قال : ( وأما الثاني فالجواب عنه أن رمضان عبادة واحدة ، وإنما الأكل بالليل رخصة إلى قوله [ ص: 188 ] فظهر الجواب والفرق ) . قلت : ليس ما قاله من أن الأصل في الليل الصوم بصحيح ، وإنما كان الممنوع بالليل الأكل والوطء بعد النوم خاصة ، أما غير ذلك وهو ما قبل فلا ، ثم إن جوابه معارض للنص في قوله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } فنص على أن الغاية تبين الفجر ، وما رأى المالكية ومن قال بقولهم في وجوب إمساك جزء من الليل ذهبوا إلى مخالفة الآية عملا بالاحتياط ، بل حملوا الآية على المراقب للفجر وهو قليل في مجرى العادة فأطلقوا القول بناء على الغالب ، وهو عدم المراقبة والله أعلم .

وما قاله في الجواب عن السؤال بعد هذا صحيح والله أعلم [ ص: 189 ]



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الرابع والمائة بين قاعدة أن الفعل متى دار بين الوجوب والندب فعل ومتى دار بين الندب والتحريم ترك تقديما للراجح على المرجوح وبين قاعدة يوم الشك هل هو من رمضان أم لا ) اعتبر المجتهدون كلا من قاعدة أن الفعل متى دار بين الوجوب والندب فعل وقاعدة أن الفعل متى دار بين الندب والتحريم ترك تقديما للراجح ، وهو درء المفاسد على المرجوح وهو تحصيل المصالح ، وذلك لأن التحريم يعتمد المفاسد والوجوب يعتمد المصالح ، وعناية صاحب الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بتحصيل المصالح ، ولما لم يصح عند الحنابلة حديث { من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم } لقول ابن عابدين لا أصل لرفعه ، وإنما يروى موقوفا على عمار بن ياسر . وأورده البخاري معلقا بقوله وقال صلة عن عمار من صام إلخ تمسكوا في وجوب صوم يوم الشك احتياطا بأمرين : الأول ما أخرجه الشيخان عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل هل صمت من سرر شعبان قال لا قال إذا أفطرت فصم يوما مكانه } وسرر الشهر بفتح السين وكسرها آخره كذا قال أبو عبيد وجمهور أهل اللغة لاستمرار القمر فيه أي إخفائه ، وربما كان ليلة أو ليلتين كذا أفاده في حاشية الدرر ا هـ من حاشية ابن عابدين .

الأمر الثاني القاعدة الأولى لأنه إن كان من [ ص: 188 ] رمضان فهو واجب وإن كان من شعبان فهو مندوب ولا تشترط النية الجازمة إلا عند عدم تعذرها قال في الإقناع وشرحه كشاف القناع وإن حال دون منظره أي مطلع الهلال غيم أو قتر أو غيرهما كالدخان ليلة الثلاثين من شعبان لم يجب صومه قبل رؤية هلاله أو إكمال شعبان ثلاثين يوما نصا ولا يثبت بقية توابعه كصلاة التراويح ووجوب الإمساك على من أصبح مفطرا ، واختاره الشيخ وأصحابه وجمع منهم أبو الخطاب وابن عقيل ، وذكره في الفائق وصاحب التبصرة وصححه ابن رزين في شرحه ، والمذهب يجب صومه أي صوم يوم الثلاثين من شعبان إن حال دون مطلعه غيم أو قتر ونحوهما بنية رمضان حكما ظنيا بوجوبه احتياطا لا يقينا .

اختاره الخرقي وأكثر شيوخ أصحابنا ونصوص أحمد عليه وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر وقاله جمع من التابعين لما روى ابن عمر مرفوعا قال { إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له } متفق ومعنى { فاقدروا له } أي ضيقوا لقوله تعالى { ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق وهو أن يجعل شعبان تسعا وعشرين يوما ، ويجوز أن يكون معناه اقدروا زمانا يطلع في مثله الهلال وهذا الزمان يصح وجوده فيه أو يكون معناه فاعلموا من طريق الحكم أنه تحت الغيم كقوله تعالى { إلا امرأته قدرناها من الغابرين } أي علمناها مع أن بعض المحققين قالوا الشهر أصله تسع وعشرون يؤيده ما رواه أحمد عن إسماعيل عن أيوب عن نافع قال كان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوما بعث من ينظر له فإن رآه فذاك وإن لم يره ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما ولا شك أنه راوي الخبر وأعلم بمعناه فيتعين المصير إليه كما رجع إليه في تفسير خيار المتبايعين يؤكده قول علي وأبي هريرة وعائشة لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ، ولأنه يحتاط له ويجب بخبر الواحد ويجزيه صوم يوم الثلاثين حينئذ إن بان منه أي من رمضان بأن تثبت رؤيته بمكان آخر لأن صيامه وقع بنية رمضان قيل للقاضي لا يصح إلا بنية ومع الشك فيها لا يجزم بها فقال لا يمنع التردد فيها للحاجة كالأسير وصلاة من خمس وتصلى التراويح ليلتئذ احتياطا للسنة .

قال أحمد القيام قبل الصيام وتثبت بقية توابعه أي الصوم من وجوب كفارة بوطء فيه ونحوه كوجوب الإمساك على من لم يبيت النية لتبعيتها للصوم ما لم يتحقق أنه من شعبان بأن لم ير مع الصحو هلال شوال بعد ثلاثين ليلة من الليلة التي غم فيها هلال رمضان فيتعين أنه لا كفارة بالوطء في ذلك اليوم ولا تثبت بقية الأحكام من حلول الآجال ووقوع المعلقات من طلاق أو عتق وغيرها كانقضاء العدة ومدة الإيلاء عملا بالأصل خولف للنص واحتياطا لعبادة عامة ا هـ .

ولما صح عند المالكية والأحناف والشافعية وما في الكتب الستة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال { لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه } وحديث { من صام يوم الشك } إلخ تمسكوا بذلك في منع صومه من رمضان .

قال العلامة ابن عابدين الحنفي [ ص: 189 ] المراد من حديث التقدم هو التقدم بصوم رمضان حتى لا يزاد على صوم رمضان كما زاد أهل الكتاب على صومهم ، وإنما كره تحريما لصورة النهي في حديث العصيان وهو وإن روي في البخاري موقوفا على عمار بن ياسر إلا أنه في مثله كالمرفوع كما قال الزيلعي وفي الفتح ، وأخرجه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم ، وصححه الترمذي عن صلة بن زفر قال كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشاة مصلية فتنحى بعض القوم فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم قال في الفتح : وكأنه فهم من الرجل المتنحي أنه قصد صومه عن رمضان ا هـ .

وحديث السرار محمول على صومه استحبابا لا عن رمضان ؛ لأنه معارض بحديث التقدم توفيقا بين الأدلة ما أمكن كما أوضحه في الفتح ا هـ وفي المختصر ، وإن غيمت ولم ير فصبيحته يوم شك وصيم عادة وتطوعا وقضاء ولنذر صادف لا احتياطا قال الحطاب يعني أن يوم الشك لا يصام لأجل الاحتياط للنهي عن ذلك ، وهو ما صححه الترمذي من حديث عمار بن ياسر من صام إلخ ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ولم يبين المصنف كابن الحاجب هل النهي على الكراهة أو التحريم .

قال في التوضيح وظاهر الحديث التحريم وهو ظاهر ما نسبه اللخمي لمالك ؛ لأنه قال ومنعه مالك وفي المدونة ولا ينبغي صيام يوم الشك ، وحملها أبو الحسن على المنع وفي الجلاب يكره صوم يوم الشك .

وقال ابن عطاء الله الكافة مجمعون على كراهة صومه احتياطا ا هـ ونحوه في ابن فرحون وقال ابن عبد السلام : الظاهر أن النهي على التحريم لقوله عصى أبا القاسم ا هـ ، وزاد أبو الحسن عن ابن يونس من الواضحة ومن صامه حوطة ثم علم أن ذلك لا يجوز فليفطر متى ما علم ا هـ .

ونقله ابن عرفة عن الشيخ بلفظ آخر النهار ، وقال ابن ناجي في شرح الرسالة وحمل أبو إسحاق المدونة على المنع ا هـ وقال الفاكهاني في الرسالة صوم يوم الشك في الحياطة من رمضان مكروه ولا يكره صومه تطوعا ، وقال بعده فقول المصنف ولا يصام يوم الشك يريد على الكراهة لا على التحريم ا هـ ثم قال وقيل يصام احتياطا ولا أعلمه في المذهب ا هـ .

وخرج اللخمي وجوب صوم يوم الشك من مسألة الشاك في الفجر ومن الحائض إذا جاوزت عادتها ، ورد عليه ذلك ابن بشير وغيره ، وبحث في ذلك ابن عرفة فلينظره من أراده ، ثم قال الفاكهاني : وإنما هذا الخلاف إذا كان الغيم أما إذا كانت السماء مصحية فهم متفقون على كراهة صومه احتياطا إذ لا وجه للاحتياط في الصحو ا هـ بحذف وتصرف ما .

قال ابن الشاط ما معناه فتحريم المالكية ومن وافقهم صومه جار على قاعدة أن كل يوم شك منهي عن صيامه عن رمضان نهي تحريم كما يؤخذ من الحديث ، ولأن الأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه بالشك لما روى أبو هريرة مرفوعا { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما } متفق عليه ، وما قيل من أنه جار على قاعدة تعارض الندب والتحريم نظرا لندبه على احتمال كونه من شعبان وتحريمه على احتمال كونه من رمضان من حيث إن كل قربة بدون شرطها حرام والنية الجازمة شرط لصومه من رمضان وهي هاهنا متعذرة فليس بشيء ؛ لأن كونه من شعبان لا على القطع لا يقتضي ندبه بل تحريمه [ ص: 190 ] للحديث كما علمت ، والنية الجازمة ليست شرطا إلا مع عدم تعذرها ا هـ بزيادة .

وأطلق المالكية ومن وافقهم القول بوجوب إمساك جزء من الليل ، وأن من شك في الفجر لا يأكل ويصوم مع أن الشك في الفجر مساو للشك في أول الشهر بوجهيه ألا ترى أن كلا منهما شك في طريان الصوم ، وأن الأصل كما أنه هناك بقاء الشهر فلا ينتقل عنه بالشك كذلك هو هنا بقاء الليل فلا ينتقل عنه بالشك .

وأما منع الأكل والوطء في صدر الإسلام فإنما كان بعد النوم خاصة ، أما قبله فلا على أنه قد رخص فيه بقوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } فأباح الله تعالى المفطرات إلى هذه الغاية كما أباحها إلى غاية رؤية الهلال أو إكمال شعبان ثلاثين يوما حتى إن اللخمي خرج وجوب صوم يوم الشك من مسألة الشاك في الفجر ومن الحائض إذا جاوزت عادتها كما في كلام الحطاب المتقدم ، إلا أنهم لم يذهبوا في مسألة الشاك في الفجر إلى مخالفة الآية عملا بالاحتياط حتى يصح تخريج اللخمي مسألة وجوب صوم يوم الشك منها بل إنما ذهبوا إلى حمل الآية على المراقب للفجر ، وهو قليل في مجرى العادة فبنوا قولهم بوجوب الصوم بجزء من الليل على الشاك في الفجر بناء على الغالب ، وهو عدم المراقبة كما قاله ابن الشاط ثم إن المالكية وإن قالوا في مسألة ما إذا شك هل صلى ثلاثا أو أربعا أنه يصليها مع أنها دائرة بين الرابعة الواجبة والخامسة المحرمة .

والمحرم يقدم على الواجب عند تعارضهما كما يقدم على المندوب عند تعارضهما لاتحاد علة تقديمه على كل منهما ضرورة أن اعتماد المصالح مشترك بين المندوب والواجب نعم الترك للمندوب أظهر لكونه أخفض رتبة من الواجب ، وقالوا في مسألة ما إذا شك في وضوئه هل هي ثانية أو ثالثة أنه يتوضأ ثالثة مع دورانها بين الثالثة المندوبة والرابعة المحرمة إلا أنهم إنما قالوا بذلك في المسألتين ؛ لأن التحريم في الخامسة مشروط في الصلاة بتيقن الرابعة أو ظنها ، ولم يحصل ذلك فلم يحصل التحريم بل استصحب الوجوب من الدليل الدال على وجوب الأربع وهو الإجماع والنصوص ، والتحريم في الرابعة مشروط في الوضوء أيضا بتيقن الثالثة أو ظنها ولم يحصل فاستصحب الندب الناشئ عن الدليل الدال على الثلاث وهو فعله صلى الله عليه وسلم وقوله في ذلك فلم يكن في قولهم بذلك فيهما مخالفة لقاعدة تعارض الوجوب أو الندب مع التحريم فافهم . فهذه قواعد في العبادات ينبغي الإحاطة بها لئلا تضطرب القواعد وتظلم على طالب العلم . والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية