الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) قيل نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكروا قصة طويلة مضمونها : أن عمارا أجار رجلا قد أسلم ، وفر أصحابه حين أنذروا بالسرية فهربوا ، وأقام الرجل ، وإن أميرها خالدا أخذ الرجل ، وماله ، فأخبره عمار بإسلامه ، وإجارته إياه فقال خالد : وأنت تجير ؟ فاستبا ، وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير على أمير .

ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم . قال عطاء : أطيعوا الله في فريضته والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته . وقال ابن زيد : في أوامره ونواهيه ، والرسول ما دام حيا ، وسنته بعد وفاته . وقيل فيما شرع والرسول صلى الله عليه وسلم فيما شرح . وقال ابن عباس ، وأبو هريرة ، والسدي ، وابن زيد : أولو الأمر هم الأمراء . وقال مجاهد : أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال التبريزي : المهاجرون والأنصار . وقيل الصحابة والتابعون . وقيل الخلفاء الأربع . وقال عكرمة : أبو بكر وعمر . وقال جابر والحسن وعطاء وأبو العالية ومجاهد أيضا : العلماء ، واختاره مالك . وقال ميمون ، ومقاتل ، والكلبي أمراء السرايا ، أو الأئمة من أهل البيت قاله الشيعة . أو علي وحده قالوه أيضا . والظاهر أنه كل من ولي أمر شيء ولاية صحيحة . قالوا : حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها ، والعبد مع سيده والولد مع والديه واليتيم مع وصيه فيما يرضي الله ، وله فيه مصلحة .

وقال الزمخشري : والمراد بـ أولي الأمر منكم أمراء الحق ; لأن أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم ؛ فلا يعطفون على الله ورسوله . وكان أول الخلفاء يقول : أطيعوني ما عدلت فيكم ، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم . وعن أبي حازم : أن مسلمة بن عبد الملك قال له : ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله : وأولي الأمر منكم ؟ قال : أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) . وقيل هم أمراء السرايا .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع أميري فقد أطاعني ، ومن يعص أميري فقد عصاني ، وقيل هم العلماء الدينون الذين يعلمون الناس الدين ؛ يأمرونهم بالمعروف ، وينهونهم عن المنكر انتهى . وقال سهل التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدنانير والدراهم والمكاييل والأوزان والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد . وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي ؛ فإن أفتى فهو عاص ، وإن كان أميرا جائرا . قيل ، ويحمل قول سهل على أنه يترك الفتيا إذا خاف منه على نفسه . وقال ابن خويزمنداد : وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان فيه معصية . قال : ولذلك قلنا : إن أمراء زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى [ ص: 279 ] غزوا ، والحكم من قبلهم ، وتولية الإمامة والحسبة ، وإقامة ذلك على وجه الشريعة . فإن صلوا بنا ، وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم ، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فتصلى معهم تقية ، وتعاد الصلاة فيما بعد . انتهى .

واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول من قال : بإمام معصوم بقوله : وأولي الأمر منكم . فإن الأمراء والفقهاء يجوز عليهم الغلط والسهو ، وقد أمرنا بطاعتهم . ومن شرط الإمام العصمة فلا يجوز ذلك عليه ؛ ولا يجوز أن يكون المراد الإمام ; لأنه قال في نسق الخطاب : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ؛ فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا ، وكان هو يقطع التنازع ؛ فلما أمر برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة دون الإمام ؛ دل على بطلان الإمامة . وتأويلهم : أن أولي الأمر علي رضي الله عنه فاسد ; لأن أولي الأمر جمع ، وعلي واحد . وكان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلي لم يكن إماما في حياته فثبت أنهم كانوا أمراء .

وعلى المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروا بمعصية . فكذلك بعد موتهم في لزوم اتباعهم طاعتهم ما لم تكن معصية . وقال أبو عبد الله الرازي : وأولي الأمر منكم إشارة إلى الإجماع ، والدليل عليه أنه أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ؛ ومن أمر بطاعته على الجزم والقطع لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ وإلا لكان بتقدير إقدامه على الخطأ مأمورا باتباعه والخطأ منهي عنه ؛ فيؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد باعتبار واحد ، وأنه محال . وليس أحد معصوما بعد الرسول إلا جمع الأمة أهل العقد والحل ، وموجب ذلك أن إجماع الأمة حجة .

( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، والأعمش ، وميمون بن مهران : فردوه إلى كتاب الله ، وسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد وفاته . وقال قوم منهم الأصم : معناه قولوا : الله ورسوله أعلم . وقال الزمخشري : فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر في شيء من أمور الدين فردوه ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة انتهى . وقد استدل نفاة القياس ، ومثبتوه بقوله : فردوه إلى الله ورسوله ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الفقه .

( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) شرط ، وجوابه محذوف ; أي فردوه إلى الله والرسول . وهو شرط يراد به الحض على اتباع الحق ; لأنه ناداهم أولا بـ ياأيها الذين آمنوا ؛ فصار نظير : إن كنت ابني فأطعني . وفيه إشعار بوعيد من لم يرد إلى الله والرسول .

( ذلك خير وأحسن تأويلا ) ذلك الرد إلى الكتاب والسنة ، أو إلى أن تقولوا : الله ورسوله أعلم . وقال قتادة والسدي ، وابن زيد : أحسن عاقبة . وقال مجاهد : أحسن جزاء . وقيل أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم . وقالت فرقة : المعنى : أن الله ورسوله أحسن نظرا ، وتأويلا منكم إذا انفردتم بتأويلكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية