الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : ذكر في سبب نزول هذه الآية شيء آخر : وهو قول عبد الله بن أبي في غزوة المريسيع : "والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" . فسعى بها زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل خلف ابن أبي فحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله تعالى الآية . رواه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة . وسيأتي بيان ذلك في غزوة المريسيع إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : روى محمد بن عمر عن عبد الحميد بن جعفر ، أن الجلاس تاب وحسنت توبته ، ولم ينزع عن خير كان يصنعه إلى عمير ، وكان ذلك مما عرفت به توبته .

                                                                                                                                                                                                                              ومن المنافقين : نبتل- بنون مفتوحة فموحدة ساكنة ففوقية مفتوحة فلام- ابن الحارث ، وكان رجلا جسيما ، أدلم ، ثائر شعر الرأس أحمر العينين ، أسفع الخدين ، وهو الذي

                                                                                                                                                                                                                              قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق عن بعض بني العجلان أنه حدث أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : "إنه يجلس إليك رجل أدلم ، ثائر شعر الرأس ، أسفع الخدين ، أحمر العينين كأنهما قدران من صفر ، كبده أغلظ من كبد الحمار ، ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره" . وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث ، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين . وهو الذي قال لهم : "إنما محمد أذن ، من حدثه بشيء صدقه" . فأنزل الله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                              ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ ص: 418 ] [التوبة 61] .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيه : في بيان غريب ما سبق :

                                                                                                                                                                                                                              "الأدلم" بدال مهملة : الأسود الطويل .

                                                                                                                                                                                                                              "ثائر شعر الرأس" : منتشر الشعر .

                                                                                                                                                                                                                              "أسفع الخدين" : السفعة- بالضم : سواد مشرب بحمرة أو زرقة .

                                                                                                                                                                                                                              "الصفر" بضم الصاد المهملة وبالفاء : النحاس .

                                                                                                                                                                                                                              ومنهم : مربع- بميم مكسورة فراء ساكنة فموحدة مفتوحة فعين مهملة- ابن قيظي بقاف فتحتية فظاء معجمة مشالة- وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامد إلى أحد : "لا أحل لك يا محمد إن كنت نبيا أن تمر في حائطي" .

                                                                                                                                                                                                                              وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال : "والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به" . فابتدره القوم ليقتلوه ،

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "دعوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر" .


                                                                                                                                                                                                                              ومنهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وسلول هي أم أبي ، وهو أبي بن مالك العوفي ، أحد بني الحبلى . وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون ، وهو الذي قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل في غزوة بني المصطلق . وفي قوله ذلك نزلت سورة المنافقين بأسرها . وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وعبد الله بن أبي سيد أهلها ، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان ، لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره ، حتى جاء الإسلام . وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم ، فجاءهم الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك ، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا . فلما أن رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام ، دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق ، والإمام أحمد ، والشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما . قال :

                                                                                                                                                                                                                              ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف . قال :

                                                                                                                                                                                                                              وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر ، [ ص: 419 ] فمر بعبد الله بن أبي وذلك قبل أن يسلم ، وهو في ظل أطم وفي مجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، في مجلس عبد الله بن رواحة . فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف ، فنزل فدعاهم إلى الله ، فقرأ عليهم القرآن وحذر وبشر وأنذر ، فقال له عبد الله بن أبي : "يا أيها المرء ، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا ، فلا تؤذونا به في مجلسنا ، وارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه" . قال : فقال ابن رواحة : "بلى يا رسول الله ، فاغشنا به في مجالسنا ، فهو والله مما نحب" . فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون .

                                                                                                                                                                                                                              فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا . فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل إلى سعد بن عبادة ، فقال له : "أي سعد ، ألم تسمع ما قال أبو حباب" ؟ يريد عبد الله بن أبي . فقال سعد : "يا رسول الله اعف عنه واصفح ، فلقد أعطاك الله ما أعطاك ، ولقد اجتمع أهل البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه ، فلما رد ذلك بالحق الذي أعطاك شرق ، فذلك الذي فعل به ما رأيت"
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وعن أنس رضي الله عنه قال : قلت : يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبي؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة . فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إليك عني ، فوالله لقد أذاني نتن حمارك . فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك .

                                                                                                                                                                                                                              فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه ، وغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد- وفي لفظ بالحديد- والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزل فيهم : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
                                                                                                                                                                                                                              [الحجرات 9] . رواه الشيخان .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : وقال عبد الله بن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى :


                                                                                                                                                                                                                              متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل تذل ويصرعك الذين تصارع     وهل ينهض البازي بغير جناحه
                                                                                                                                                                                                                              وإن جذ يوما ريشه فهو واقع

                                                                                                                                                                                                                              ومنهم أبو عامر الفاسق ، واسمه : عبد عمرو بن صيفي بن النعمان الأوسي ، أحد بني ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة . وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فكان يقال له الراهب . وكان شريفا مطاعا في قومه ، فشقي بشرفه وضره .

                                                                                                                                                                                                                              ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو عامر قبل أن يخرج إلى مكة فقال : يا محمد ، ما [ ص: 420 ] هذا الدين الذي جئت به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جئت بالحنيفية دين إبراهيم" . قال : فإني عليها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لست عليها [لأنك أدخلت فيها ما ليس منها] . قال : بل أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها . قال : "ما فعلت ، بل جئت بها بيضاء نقية" . فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب [منا] طريدا وحيدا . وإنما قال ذلك يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم ، أمات الله الكاذب منا كذلك" .

                                                                                                                                                                                                                              فكان ذلك هو عدو الله فخرج إلى مكة . فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، خرج إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، فمات بها طريدا غريبا وحيدا .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية