الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات ، وهو من المثيرات للفتن ، فيجب قمعهم ومنعهم من ذلك وخوضهم في حروف القرآن يضاهي حال من كتب الملك إليه كتابا ورسم ، له فيه أمورا ، فلم يشتغل بشيء منها ، وضيع زمانه في أن قرطاس الكتاب عتيق أم حديث ، فاستحق بذلك العقوبة لا محالة فكذلك ، تضييع العامي حدود القرآن واشتغاله بحروفه ، أهي قديمة أم حديثة ، وكذلك سائر صفات الله سبحانه وتعالى والله تعالى أعلم .

التالي السابق


( فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات، وهو من المثيرات للفتن ، فيجب زمهم) أي: كفهم، (ومنعهم عن ذلك) ، وليس المراد بالعوام السوقية، والأجلاف من أهل السواد فقط، بل في معنى العوام الأديب والنحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم، بل كل عالم سوى المتجردين لعلم السباحة في بحار المعرفة، القاصرين أعمارهم عليه، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات، المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات، المخلصين لله تعالى في العلوم والأعمال، القائمين بجميع حدود الشريعة، وآدابها في القيام بالطاعات، وترك المنكرات المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله لله، المستحقرين للدنيا; بل للآخرة في جنب محبة الله تعالى، فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة، وهم مع ذلك كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة، إلى أن يسعد واحد منهم بالدر المكنون، والسر المخزون، (وخوضهم) أي: أولئك العوام، ومن في معناهم (في حروف القرآن يضاهي اشتغال من كتب إليه الملك كتابا، رسم له فيه أمورا، فلم يشتغل بشيء منها، وضيع زمانه في أن قرطاس الكتاب عتيق أم حديث، فاستحق بذلك العقوبة لا محالة، فكذا تضييع العامي حدود القرآن واشتغاله بحروفه، أهي قديمة أم حادثة، وكذلك سائر صفات الله تعالى) ، فإن اتفق سؤال مثل ذلك فيجب على العارف منع السائل عن مثله، وليبين له أنه بدعة، وقد نهينا عن الخوض في مثل ذلك، وإن لم يجد بدا من الخوض معه في مثله، فليقل له: ماذا تعني في سؤالك؟ فإن أردت شيئا من القرآن ومن صفات الله تعالى، فجميع صفات الله قديمة، وإن أردت شيئا من صفات الخلق، فجميع صفاتهم مخلوقة، فإن أردت ما ليس صفة للخلق، ولا صفة للخالق، فهو غير مفهوم ولا مقصود، وما لا يفهم ولا يتصور ذاته، كيف يفهم حكمه في القدم، والحدوث، والأصل زجر السائل والسكوت عن الجواب، ولا عدول عنه إلا لضرورة، فسبيل المضطر ما ذكرناه، وإن كان السائل ذكيا مستعدا للحقائق يكشف له الغطاء عن المسألة، ويقال له: إن كل شيء، فله في الوجود أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البياض المكتوب عليه، كالنار مثلا، فإن لها وجودا في التنور، ووجودا في الخيال والذهن، وهو العلم بصورة النار وحقيقتها، ولها وجود في اللسان، وهي كلمة دالة عليها، أعني لفظ النار، ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم، والإحراق صفة خاصة للنار، كالقدم للقرآن ولكلام الله تعالى، والمحرق من هذه الجملة هي التي في التنور، دون التي في الأذهان، وفي اللسان، وعلى البياض؛ إذ لو كان المحرق هو الذي في البياض أو اللسان لاحترق، ولو قيل: النار محرقة؟ قلنا: نعم. فإن قيل: كلمة النار محرقة -وهي النون والألف والراء-؟ قلنا: لا. فإن قيل: فرقوم هذه الحروف على البياض محرقة؟ قلنا: لا. فإن قيل: المذكور بكلمة النار، والمكتوب بكلمة النار محرق؟ قلنا: نعم؛ لأن المذكور والمكتوب بهذه الكلمات هو ما في التنور، وما في التنور محرق، فكذلك القدم وصف كلام الله، كالإحراق في وصف النار، وما يطلق عليه اسم القرآن له وجود على أربع مراتب ، أولاها، وهي الأصل: وجود قائم بذات الله تعالى، يضاهي وجود النار في التنور، ولله المثل الأعلى، لكن لا بد من هذه الأمثلة في تفهيم العجزة، والقدم وصف خاص لهذا الوجود، والثانية وجود العلم في أذهاننا عند التعلم، قبل أن ننطق بلساننا، ثم وجوده في لساننا بتقطع أصواتنا، ثم وجوده في الأوراق بالكتابة، فإذا سئلنا عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به قلنا: علمنا صفتنا، وهي مخلوقة، لكن المعلوم به قديم، كما أن علمنا بالنار وثبوت صورتها في الخيال غير محرق، لكن المعلوم به محرق، فإذا سئلنا عن صوتنا وحركة لساننا، قلنا: ذلك صفة لساننا، ولساننا حادث وصفته توجد بعده، وما هو بعد الحادث حادث بالضرورة، ولكن منطوقنا، ومذكورنا ومقروءنا ومتلونا بهذه الأصوات الحادثة قديم، كما إذا ذكرنا حروف النار بلساننا، كان المذكور بهذه الحروف محرقا، وأصواتنا وتقطع أصواتنا غير محرق، إلا أن يقول قائل: حروف النار عبارة عن نفس النار. قلنا: إن كان كذلك فحروف النار محرقة، وحروف القرآن إن كانت عبارة عن نفس القرآن، فهي قديمة، وكذلك المخطوط برقوم النار والمكتوب [ ص: 582 ] به محرقة; لأن المكتوب هو نفس النار; إذ الرقم الذي هو صورة النار غير محرق؛ فإنه في الأوراق من غير إحراق واحتراق، فهذه أربع درجات في الوجود تشكل على العوام، ولا يمكنهم إدراك تفاصيلها، وخاصة كل واحد منها، فلذلك لا يخوض بهم فيها لجهلهم بحقيقة هذه الأمور، فحق البليد أن يمنع من الخوض فيه، ويقال له: القرآن غير مخلوق، واسكت، ولا تزد عليه، ولا تنقص، ولا تزل عنه، ولا تبحث، وأما الذكي فيزال عنه الإشكال في لحظة، ويوصى بألا يحدث العامي، وألا يكلفه ما ليس في طاقته، وهكذا جميع مواضع الإشكالات في الظواهر، وقد استوفاه المصنف في إلجام العوام، ومر تفصيل ذلك في كتاب قواعد العقائد، وعلى هذا القدر وقع الاقتصار في شرح كتاب آفات اللسان.فرغ من ذلك عند أذان ظهر يوم الثلاثاء، ثالث صفر الخير من شهور سنة ألف ومئتين، وكتب أبو الفيض محمد مرتضى الحسيني تاب الله عليه، وأعانه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، آمين .

(تم الجزء السابع، ويليه الجزء الثامن، أوله كتاب ذم الغضب) . /////



الخدمات العلمية