الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتضمن تحاكمهم إليه ورجوعهم إلى ما يحكم به ولكن بقصد منهم مذموم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذلك أنهم ائتمروا بينهم أنه إن حكم بما يوافق هواهم فاتبعوه ، وإلا فاحذروا ذلك وقد ذمهم الله في كتابه العزيز على هذا القصد . قال عبد الله بن المبارك : ثنا معمر عن الزهري قال : كنت جالسا عند سعيد بن المسيب ، وعند سعيد رجل وهو يوقره ، وإذا هو رجل من مزينة ، كان أبوه شهد الحديبية ، وكان من أصحاب أبي هريرة ، قال : قال أبو هريرة : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء نفر من اليهود ، وقد زنا رجل منهم وامرأة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا حدا دون الرجم فعلناه ، واحتججنا عند الله حين نلقاه بتصديق نبي من أنبيائه - قال مرة عن الزهري : وإن أمرنا بالرجم عصيناه ، فقد عصينا الله فيما كتب علينا من الرجم في التوراة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : [ ص: 99 ] يا أبا القاسم ، ما ترى في رجل منا زنا بعد ما أحصن؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إليهم شيئا ، وقام معه رجال من المسلمين ، حتى أتوا بيت مدراس اليهود ، فوجدوهم يتدارسون التوراة ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر ، اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة من العقوبة على من زنا إذا أحصن؟ " قالوا : نجبيه والتجبية أن يحملوا اثنين على حمار فيولوا ظهر أحدهما ظهر الآخر - قال : وسكت حبرهم ، وهو فتى شاب ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا ألظ به النشدة ، فقال حبرهم : أما إذ نشدتهم فإنا نجد في التوراة الرجم على من أحصن . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فما أول ما ترخصتم أمر الله ، عز وجل؟ " فقال : زنى رجل منا ذو قرابة بملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم فزنا بعده آخر في أسرة من الناس ، فأراد ذلك الملك أن يرجمه ، فقام قومه دونه فقالوا : لا والله لا نرجمه حتى يرجم فلانا ابن عمه ، فاصطلحوا بينهم على هذه العقوبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإني أحكم بما في التوراة " . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرجما قال الزهري : وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا [ المائدة : 44 ] . وله شاهد في " الصحيحين " عن ابن عمر . قلت : وقد ذكرنا ما ورد في هذا السياق من الأحاديث عند قوله تعالى : [ ص: 100 ] يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه [ المائدة : 41 - 43 ] . يعني الجلد والتحميم الذي اصطلحوا عليه ، وابتدعوه من عند أنفسهم ، يعني إن حكم لكم محمد بهذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا . يعني وإن لم يحكم لكم بذلك فاحذروا قبوله . قال الله تعالى ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلى أن قال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين فذمهم الله تعالى على سوء قصدهم بالنسبة إلى اعتقادهم في كتابهم ، وإن فيه حكم الله بالرجم ، وهم مع ذلك يعلمون صحته ، ثم يعدلون عنه إلى ما ابتدعوه من الجلد والتحميم والتجبية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى هذا الحديث محمد بن إسحاق عن الزهري قال : سمعت رجلا من مزينة يحدث سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثهم فذكره . وعنده : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صوريا : " أنشدك بالله وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنا بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ " فقال : اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم إنهم يعرفون أنك نبي مرسل ، ولكنهم يحسدونك ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بهما ، فرجما عند باب مسجده في [ ص: 101 ] بني غنم بن مالك بن النجار قال : ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، فأنزل الله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآيات . وقد ورد ذكر عبد الله بن صوريا الأعور في حديث ابن عمير وغيره بروايات صحيحة قد بيناها في " التفسير " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حديث آخر : قال حماد بن سلمة : ثنا ثابت عن أنس أن غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده ، فوجد أباه عند رأسه يقرأ التوراة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا يهودي أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تجدون في التوراة نعتي وصفتي ومخرجي؟ " فقال : لا . فقال الفتى : بلى والله يا رسول الله ، إنا نجدك في التوراة; نعتك وصفتك ومخرجك ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أقيموا هذا عند رأسه ، وغسلوا أخاكم " ورواه البيهقي من هذا الوجه بهذا اللفظ .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حديث آخر : قال أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبيدة بن عبد الله ، عن أبيه قال : إن الله [ ص: 102 ] ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم لإدخال رجل الجنة; فدخل النبي صلى الله عليه وسلم كنيسة ، فإذا هو بيهود ، وإذا يهودي يقرأ التوراة ، فلما أتى على صفته أمسك . قال : وفي ناحيتها رجل مريض ، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم : " ما لكم أمسكتم؟ " فقال المريض : إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا . ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة وقال : ارفع يدك . فقرأ حتى أتى على صفته ، فقال هذه صفتك وصفة أمتك ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله . ثم مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " غسلوا أخاكم "

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حديث آخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على مدراس اليهود فقال : " يا معشر يهود ، أسلموا ، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله إليكم . فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم فقال : " ذلك أريد "

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية