الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 269 ] المسألة الثانية وروده على سبب خاص

                                                      فتقول : لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما جاء من الشارع ابتداء كقوله : { مفتاح الصلاة الطهور } ، فأما ما ذكره جوابا لسؤال ، فأطلق جماعة أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بلا خلاف . ولا بد في ذلك من تفصيل ، وهو أن الخطاب إما أن يكون جوابا لسؤال سائل أم لا ؟ . فإن كان جوابا ، فإما أن يستقل بنفسه أو لا ، فإن لم يستقل بحيث لا يصح الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه ، حتى كأن السؤال معاد فيه ، فإن كان السؤال عاما فعام أو خاصا فخاص .

                                                      مثال خصوص السؤال قوله تعالى : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } وقوله في الحديث : { أينقص الرطب [ ص: 270 ] إذا جف ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذن } وكقول القائل : وطئت في نهار رمضان عامدا فيقول : عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ، ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج على أنه عام في المكلفين ، أو في كل من كان بصفته .

                                                      ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان ، فقال : يعتق رقبة . فهذا عام في كل واطئ في رمضان . وقوله : " يعتق " وإن كان خاصا بالواحد ، لكنه لما كان جوابا عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع كان الجواب كذلك ، وصار السؤال معادا في الجواب . واختلف أصحابنا في المعنى الذي لأجله حمل هذا الحكم على العموم ، فقيل : لأنه لما لم يستفصل " بأي شيء أفطرت " ؟ دل على أن الحكم باختلاف ما يقع به الفطر ، وضعف باحتمال علمه بالحال ، فأجاب على ما علم .

                                                      وقيل : لما نقل السبب وهو الفطر ، فحكم فيه بالعتق صار كأنه علل وجوب العتق بوجود الفطر ، لأن السبب في الحكم تعليل ، وهذا موجود في غير السائل ، وهذا أصح .

                                                      وقيل من قوله : ( حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ) ، قال الغزالي : وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله وكل وصف مؤثر للحكم . [ ص: 271 ] وجعل القاضي في " التقريب " من هذا الضرب قوله : { أنتوضأ بماء البحر ؟ فقال : هو الطهور ماؤه } فقال : لأن الضمير لا بد له من تعلق بمذكور قبله ، ولا يحسن أن يبتدأ به ، وفيه نظر ، لأن هذا ضمير الشأن ، ومن شأنه صدر الكلام ، وإن لم يتعلق بما قبله ، وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني ، وهو الصواب ، وبه صرح ابن برهان وغيره . وإن استقل الجواب بنفسه بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاما تاما مفيدا للعموم فهو على ثلاثة أقسام : لأنه إما أن يكون أخص أو مساويا أو أعم

                                                      الأول : أن يكون مساويا له لا يزيد عليه ولا ينقص ، كما لو سئل عن ماء بضاعة وماء البحر ، فقال : لا ينجسه شيء ، فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف كما قاله ابن فورك ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، وابن القشيري وغيرهم وكذا قال أبو الحسين في " المعتمد " : لا شك في كونه مقصودا فيه ، ولا يجوز خروج شيء من السؤال عن الجواب إلا بدليل . ومثل القاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " هذا القسم بحديث المجامع في نهار رمضان .

                                                      قال : والظاهر تعلق الحكم الذي هو الإعتاق بالوقوع المذكور تعلق الحكم بالعلة ، لأن السبب هو الذي اقتضى الحكم وآثاره ، فيعم كل من وجد فيه ذلك .

                                                      قال : ولهذا قلنا فيما روي أن { أعرابيا جاء إلى النبي عليه السلام وعليه جبة ، مضمخ بالخلوق ، فقال : وعلى هذه الجبة ، فقال : أحرمت انزع الجبة ، واغسل الصفرة } ، ولم يأمره بالفدية فدل على أن الفدية غير [ ص: 272 ] واجبة ، والسبب علق الحكم بمثله ، وظاهر كلام الأستاذ أبي منصور جريان الخلاف إلا في هذا القسم أيضا .

                                                      وقال ابن الصباغ في " العدة " : ذكر القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية " أن المخاطب بذلك يكون أصلا ، وكل من فعل فعلا مثله يكون فرعا له بعلة تعدت إليه ، كما كان الأرز فرعا للبر في إثبات الربا فيه . قال : وهذا فيه نظر ، لأن خطابه صلى الله عليه وسلم لواحد خطاب للجماعة بالإجماع ، ولو كان غيره فرعا له لكان هو أيضا فرعا لنفسه ، وهو محال .

                                                      الثاني : أن يكون الجواب أخص من السؤال مثل أن يسأل عن أحكام المياه ، فيقول : ماء البحر طهور ، فيخص الجواب بالبعض ، ولا يعم بعموم السؤال بلا خلاف قاله الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما . لكن كلام الأستاذ أبي إسحاق يقتضي جريان الخلاف فيه . قال ابن القشيري : ولا يجوز أن يصدر مثل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا علم أن الحاجة إنما تمس إلى بيان ما خصصه بالذكر ، أما إذا علم أن الحاجة عامة في بيان جملة المياه فتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

                                                      ولهذا قال المازري : إن قيل : هل يجوز أن لا يطابق النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بزيادة أو نقص ؟ قلنا : أما الزيادة فنعم ، كقوله : { الحل ميتته } وقد سئل عن الماء ، وأما النقصان فإن مست الحاجة إلى بيان جميعه ولم يكن في المذكور تنبيه على المسكوت عنه لم يجز ، وإن كان فيه تنبيه يعلم به السامع حكم المسكوت عنه قبل فوت الحادثة ، فإن ذلك لا يسوغ ، فإن لم تمس الحاجة إليه فعلى الخلاف في تأخير البيان .

                                                      وقال القاضي أبو بكر وابن فورك وصاحب " المعتمد " وغيرهم : هذا لا يجوز إلا بثلاثة شروط : أن ينبه في الجواب على حكم غيره ، وأن يكون السائل مجتهدا ، وإلا لم يفد التنبيه ، ولعلهم أرادوا بالمجتهد من له قوة التنبه وإن لم يبلغ رتبة الاجتهاد وأن يبقى من زمن العمل وقت متسع للاجتهاد ، [ ص: 273 ] فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما سأله ، وينبهه بذلك على جواز البعض الآخر بطريق من طرق العلة ، كقوله لعمر حين سأله عن القبلة للصائم : { أرأيت لو تمضمضت } وقوله للخثعمية : { أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أينفعه ذلك ؟ قالت : نعم . قال : فدين الله أحق أن يقضى } ، قال : وحكمه حينئذ كحكم السؤال ، لكن لا يسمى عاما لدلالة التنبيه . ومتى انتفى شرط من الثلاثة لا يجوز أن يجيب المسئول فيها عن البعض للإخلال بما يجب بيانه .

                                                      ومثل القاضي في " شرح الكفاية " هذا القسم بما لو سئل عن قتل النساء الكوافر ، فقال : اقتلوا المرتدات . قال : فيختص القتل بهن ، ولا تقتل الحربيات لأجل دليل الخطاب . ولأن عدوله عن الجواب العام إلى الخاص دليل على قصد المخالفة . قال : ولهذا قال أصحابنا في حديث : { جعلت لي الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا } : علق على اسم الأرض كونها [ ص: 274 ] مسجدا ، وعلق على تربتها كونه طهورا ، فدل على قصد المخالفة بين المسجد والطهورية ، خلاف قول الحنفية : إن الأرض كلها مسجد وطهور .

                                                      ومنه احتجاج أصحابنا بقوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } إلى قوله : { حتى يضعن حملهن } فأوجب السكنى مطلقا والنفقة بشرط الحمل ، فدل على قصد المخالفة بينهما ، وأن المبتوتة الحائل لا نفقة لها .

                                                      ومثل الأستاذ أبو إسحاق هذا القسم بقول السائل : { هلكت وأهلكت ، فقال : اعتق رقبة } ، فأجاب بما يلزمه ، ولم يتعرض لحكم الموطوءة ، قال : فمن أسقط السبب ، واعتبر اللفظ جعله ظاهرا فيها ، وطلب دلالة في حكمها . الثالث : أن يكون الجواب أعم من السؤال ، فيتناول ما سئل عنه وعن غيره ، فهو قسمان :

                                                      أحدهما : أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه ، كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر ، وجوابه بقوله : { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } ، فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ، ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم ، بل يعم حال الضرورة والاختيار . قاله أبو بكر بن فورك وصاحب " المعتمد " والمحصول " ، لكن صرح القاضي أبو الطيب وابن برهان بجريان الخلاف الآتي في هذا القسم ، وجعل الأستاذ أبو إسحاق هذا الحديث من قسم المساوي ، وفيه نظر .

                                                      الثاني : أن يكون أعم منه في ذلك الحكم الذي سأل عنه ، كقوله : [ ص: 275 ] وقد سئل عن بئر بضاعة : { الماء طهور لا ينجسه شيء } ، وعمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا { الخراج بالضمان } ، وفيه مذاهب :

                                                      أحدها : وبه قال بعض أصحابنا ونسبه المتأخرون للشافعي ، أنه يجب قصره على ما أخرج عليه السؤال ، ونسبه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسليم الرازي وابن برهان وابن السمعاني إلى المزني وأبي ثور والقفال والدقاق ، وفي نسبة ذلك للقفال نظر ، وهو ظاهر كلام الخفاف في " الخصال " ، فإنه جعل من المخصصات خروج الكلام على معهود متقدم .

                                                      ونسبه الأستاذ أبو منصور إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري ، قال : وعليه يدور كلامه في كثير من الآيات ، يقتصر بها على أسبابها التي ترتب فيها ، ويجعلها تفسيرا لها ، ودلالة على المراد باللفظ ، ونسبه القاضي عبد الوهاب والباجي لأبي الفرج من أصحابهم ، ونسبه الإمام في " البرهان " لأبي حنيفة وقال : إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي ، وكذا قال الغزالي في " المنخول " وتبعه في " المحصول " والذي في كتب الحنفية ، وصح عن الشافعي خلافه كما سيأتي . نقله القاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك ، قال الماوردي : ولهذا لو قذف زوجته ثم وطئها لم يلاعن عنده ، ويجعل الوطء تكذيبا له ، لأن آية اللعان وردت في العجلاني على سبب خاص ، وهو قوله : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني وما قربتها منذ سمعت . وقصد بذلك أنه ترك إصابتها مدة طويلة واقتضى أن يكون ترك إصابتها شرطا في جواز لعانها . [ ص: 276 ]

                                                      والثاني : أنه يجب حمله على العموم ، لأن عدول المجيب عن الخاص المسئول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ، ولأن الحجة في اللفظ ، وهو مقتضى العموم . ووروده على السبب لا يصلح معارضا لجواز أن يكون المقصود عند ورود السبب : بيان القاعدة العامة لهذه الصورة وغيرها .

                                                      وهذا مذهب الشافعي كما قاله الشيخ أبو حامد ، والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان في الأوسط وذكر ابن السمعاني في " القواطع " أن عامة الأصحاب يسنده إلى الشافعي .

                                                      واختاره أبو بكر الصيرفي ، وابن القطان ، وقال الأستاذ أبو إسحاق وابن القشيري وإلكيا الطبري والغزالي : إنه الصحيح .

                                                      وبه جزم القفال الشاشي في كتابه ، فقال : والأصل أن العموم له حكم ، إلا أن يخصه دليل ، والدليل قد يختلف ، فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه فذاك ، وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه ، ثم قال : والأصل في ذلك أن الأحكام لا يخلو أكثرها عن سبب وأمر يحدث ، ولا ينظر إلى ذلك ، وإنما النظر إلى الحكم كيف مورده ، فإن ورد عاما لم يخص إلا بدليل وإن ورد مطلقا لم يقيد إلا بدليل ، لأن الأسباب متقدمة ، والأحكام بعدها فقد ينظمها مع تقدمها ، كما أن الأحكام لا يخلو أكثرها من أن يقضى به على غير أولها أو فمها ، وليس في ذلك ما يوجب الاقتصار بالخطاب على العين . هذا كلامه .

                                                      وقال القاضي ابن كج في كتابه في الأصول : ذهب عامة أصحابنا إلى أن الحكم للفظ . وبه قال أبو حنيفة ، وهو مذهب الشافعي .

                                                      قال نصا : والأسباب لا تصنع شيئا ، وإنما الحكم للألفاظ . وقال قوم من أصحابنا : [ ص: 277 ] إن الحكم للسبب ، وادعوا أن ذلك مذهب الشافعي ، لأنه قال في قوله : { إنما الربا في النسيئة } إنه خرج عن سؤال السائل ، لأنه سأل عن الربا في الجنس .

                                                      انتهى .

                                                      وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحابنا والحنفية ، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية ، وأكثر الشافعية والمالكية ، وحكاه الباجي عن أكثر المالكية ، والعراقيين : إسماعيل القاضي ، والقاضي أبي بكر ، وابن خويز منداد وغيرهم ، وقال : إنه الصحيح عندي . انتهى . وقال القاضي في " التقريب " : إنه الصحيح ، لأن الحكم يتعلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ، ولو قال ابتداء لوجب حمله على العموم ، فكذلك إذا صدر جوابا .

                                                      وقال الباجي : روي عن مالك المذهبان ; وقال القاضي أبو بكر : روي عن الشافعي المذهبان ، لأنه جعل الخراج بالضمان عاما ، وحمله على جميع المبيعات ، ولم يخصه بمال ، وهو العبد ، وقال في موضع آخر : إن قوله : { إنما الربا في النسيئة } ، يحتمل أن يكون خارجا عن سؤال سائل ، فيجب قصره عليه . انتهى .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية