الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال رحمه الله ) : وإذا أذن المولى لعبده في التجارة ثم مرض المولى فباع العبد بعض [ ص: 54 ] ما كان في يده من تجارته ، واشترى شيئا فحابى في ذلك ثم مات المولى ، ولا مال له غير العبد ، وما في يده فجميع ما فعل من ذلك مما يتغابن الناس فيه أو ما لا يتغابن الناس فيه فهو جائز في قول أبي حنيفة من ثلث مال المولى ; لأن العبد بانفكاك الحجر عنه بالإذن صار مالكا للمحاباة مطلقا في قول أبي حنيفة حتى لو باشره في صحة المولى كان ذلك صحيحا منه والمولى حين استدام الإذن بعد مرضه جعل تصرف العبد بإذنه كتصرفه بنفسه ، ولو باع المولى بنفسه وحابى يعتبر من ثلث ماله المحاباة اليسيرة والفاحشة في ذلك سواء ، فكذلك إذا باشره العبد ، وفي قول أبي يوسف ومحمد محاباته بما يتغابن الناس فيه كذلك فأما محاباته بما لا يتغابن الناس فيه فباطلة ، وإن كان يخرج من ثلث المولى ; لأن العبد عندهما لا يملك هذه المحاباة في الإذن في التجارة حتى لو باشره في صحة المولى كان باطلا ، وكذلك إن كان على العبد دين لا يحيط برقبته وبجميع ما في يده كان قولهم في إمضاء محاباة العبد بعد الدين من ثلث مال المولى على ما بينا ; لأن قيام الدين على العبد لا يغير حكم انفكاك الحجر عنه بالإذن .

وإن كان على المولى دين محيط برقبة العبد ، وبما في يده ، ولا مال له غيره لم يجز محاباة العبد بشيء ; لأن مباشرته كمباشرة المولى وقيل : للمشتري إن شئت فانقض البيع ، وإن شئت فأد المحاباة كلها ; لأنه لزمه زيادة في الثمن لم يرض هو بالتزامها فيتخير لذلك ، وإن لم يكن على المولى دين ، وكان على العبد دين يحيط برقبته وبجميع ما في يده فمحاباة العبد جائزة على غرمائه من ثلث مال المولى ; لأن حكم الإذن لم يتغير بلحوق الدين إياه .

والمحاباة ، وإن جازت على الغرماء فإنما هي من مال المولى ، ولو كان الذي حاباه العبد بعض ورثة المولى كانت المحاباة باطلة في جميع هذه الوجوه ; لأن مباشرة العبد كمباشرة المولى ، والمريض لا يملك المحاباة في شيء مع وارثه ، ولو أن رجلا دفع إلى هذا العبد جارية يبيعها له في مرض المولى فباعها من وارث المولى وحاباه فيها جاز ذلك ; لأن هذه المحاباة ليست من مال المولى ، ولا شيء على ورثة المولى ، وهذا التصرف من العبد لم يكن نفوذه بإذن المولى بل هو ثابت عن الموكل ، وإنما ينفذ بوكالته ، وكأنه باشره بنفسه ، ولو باع العبد في مرض مولاه شيئا ، ولم يحاب فيه ، ولا دين على واحد منهما أو اشترى ، ولم يحاب فيه ثم أقر بقبض ما اشترى أو بقبض ثمن ما باع ثم مات المولى ، فإقراره جائز بمنزلة ما لو كان المولى هو الذي باشر هذا التصرف ، وأقر بقبض الثمن ، وكذلك إن كان على العبد دين كبير ، ولو كان على المولى دين كثير يحيط برقبته ، وما في يده لم يصدق على القبض إلا بالبينة ; لأن إقراره بالقبض في المعنى إقرار [ ص: 55 ] بالدين .

فإنه يقول : وجوبه علي بالقبض مثل ما كان لي عليه ثم صار قصاصا ودين العبد يمنع صحة إقراره على نفسه بالدين في مرضه ، فكذلك يمنع صحة إقراره بالقبض ، وأما دين المولى في صحته فيمنع إقرار العبد على نفسه بالدين في مرضه ، فكذلك يمنع صحة إقراره بالقبض ، ويقال للمشتري : إن شئت فأد الثمن مرة أخرى ، وإن شئت فانقض البيع ; لأنه لزمه زيادة في الثمن لم يرض بالتزامهما .

وإقرار العبد في إثبات الخيار للمشتري زيادة في الثمن صحيح ، وإن لم يكن صحيحا في وصول الثمن إليه ; لتمكنه من إقالة العقد معه ، ولو كان الذي بايعه بعض ورثة المولى لم يجز إقرار العبد بالقبض منه كان عليه أو على المولى دين أو لم يكن كما لا يجوز إقراره له بالدين ، وكما لا يجوز إقرار المولى بالقبض منه في مرضه لو كان هو الذي عامله ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية