الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولا قصاص على الأبوين ، والأجداد ، والجدات من قبل الآباء ، والأمهات عندنا ، وقال مالك إن رمى الأب ولده بسيف أو سكين فقتله فلا قصاص عليه ، وإن أخذه فذبحه فعليه القصاص ; لأن وجوب القصاص باعتبار تغليظ الجناية ، ولهذا اختص بالعمد ، وجناية الأب أغلظ من جناية الأجنبي ; لأنه انضم إلى تعمده القتل بغير حق ، وارتكابه ما هو محظور مع قطيعة الرحم فإذا وجب القصاص على الأجنبي باعتبار تغليظ جنايته فعلى الأب أولى ، وهو نظير من زنى بابنته فإنه يلزمه من الحد ما يلزمه إذا زنى بالأجنبية ; لتغليظ جنايته هاهنا بكونها محرمة عليه على التأبيد إلا أن مع شبهة الخطأ لا يجب القود ، وعند الرمي يتمكن شبهة الخطأ فالظاهر : أنه قصد تأديبه لا قتله ; لأن شفقة الأبوة تمنعه من ذلك بخلاف الأجنبي فليس هناك بينهما ما يدل على الشفقة [ ص: 91 ] فجعلنا الرمي من الأجنبي عمدا محضا .

فأما إذا أخذه فذبحه فليس هاهنا شبهة الخطأ بوجه ، والدليل عليه أن القصاص يجب على الابن بقتل أبيه فكذلك على الأب بقتل ابنه ; لأن في القصاص معنى المساواة ، ومن ضرورة كون أحدهما مساويا للآخر أن يكون الآخر مساويا له .

وحجتنا في ذلك قوله : عليه السلام { لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده } وقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في من قتل ابنه عمدا بالدية في ماله ، ومنهم من استدل بقوله عليه السلام { أنت ومالك لأبيك } فظاهر هذه الإضافة يوجب كون الولد مملوكا لأبيه ثم حقيقة الملك تمنع وجوب القصاص كالمولى إذا قتل عبده فكذلك شبهة الملك باعتبار الظاهر ، وكان ينبغي باعتبار هذا الظاهر أن لا يلزمه الحد إذا زنى بها ، ولكن تركنا القياس في حكم الحد ; لأن الحد محض حق الله تعالى وهو جزاء على ارتكاب ما هو حرام محض وبإضافة الولد إلى الوالد تزداد معنى الحرمة ، فلا يسقط الحد به ، ولهذا سقط الحد عنه إذا وطئ جارية الابن ; لأن إضافة الجارية إليه بالملكية ، وحقيقة الملك فيها توجب الحل بظاهر الإضافة ، ويوجب شبهة أيضا فأما حقيقة الملك في محل الحرمة لا يورث الحل فالإضافة لا تورث الشبهة .

يوضحه أن الملك كما يبيح الوطء يبيح الإقدام على القتل فإن ولي الدم لما ملك نفس من عليه في حكم القصاص كان له أن يستوفي فالإضافة إليه بالملكية توجب شبهة في الفصلين ، فأما الملك في محل الحرمة فلا يوجب حل الوطء فلا يصير شبهة في إسقاط الحد .

والمعنى في المسألة : أن القصاص يجب للمقتول أو لوليه على سبيل الخلافة عنه ، والابن ليس من أهل أن يستوجب ذلك على أبيه ، وبدون الأهلية لا يثبت الحكم ، وبيان ذلك أنه ليس للابن أن يقتل أباه شرعا بحال ابتداء سواء كان مشركا أو مرتدا أو زانيا ، وهو محصن ; لأن الأب كان سبب إيجاد الولد فلا يجوز للولد أن يكتسب سبب إفنائه ، وفي وجوب القود عليه إتلاف حكما ، والمقصود منه الاستيفاء دون الوجوب بعينه ، وهذا ; لأنه مأمور شرعا بالإحسان إليهما قال الله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } وعليه أن يصاحبهما بالمعروف ، وإن كانا مشركين لقوله تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بي } ، وليس القتل من الإحسان ، والمصاحبة بالمعروف في شيء فكل ذلك ثبت للوالد عليه شرعا ; ليعرف العاقل بحق الوالد عظيم حق الله تعالى فإن الوالدين كانا سببين لوجوده وتربيته ، والله تعالى هو الخالق الرازق على الحقيقة فيعرف العاقل بهذا أن مراعاة حق الله أوجب عليه ، وإذا ثبت أنه لا يجب القصاص على الوالد بقتل الولد ثبت أنه لا يجب [ ص: 92 ] على الوالدة ; لأن حقها أوجب .

فكذلك الأجداد ، والجدات من قبل الرجال ، والنساء لمعنى الولادة ، والحرية بينهم وبين المقتول فإن كان بواسطة فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فعملت الشبهة فيه عمل الحقيقة بخلاف الولد إذا قتل والده فالولد ما كان سببا لإيجاد والده ، والولد يقابل ما عليه من مراعاة حرمة الوالد بضده فعليه القصاص ، وهو بمنزلة العبد إذا قتل مولاه يلزمه القصاص ، والمولى إذا قتل عبده لا يلزمه القصاص ، وإن منع مالك هذا بغير الكلام فيه فنقول : لو وجب القصاص إنما يجب له كما لو قتله غيره ، ولا يجوز أن يجب له على نفسه .

( ألا ترى ) أنه لو قتل عبده خطأ لم يجب عليه ضمان ; لأنه لو قتله غيره كان الضمان للمولى فإذا قتله المولى لا يجوز أن يجب له على نفسه ثم على الآباء ، والأجداد الدية بقتل الابن عمدا في أموالهم في ثلاث سنين ، وقال الشافعي تجب الدية حالة ، وإنما لا يعقله العاقلة لقوله : عليه السلام { لا تعقل العاقلة عمدا } يعني الواجب بالعمد ثم قال الشافعي الأصل أن ضمان المتلف يكون على المتلف في ماله حالا كسائر المتلفات إلا أن التأجيل في الدية عند الخطأ ثبت للتخفيف على الخاطئ ، وعلى عاقلته ، والعامد لا يستحق ذلك التخفيف فيكون الواجب عليه حالا .

( ألا ترى ) أن الوجوب على العاقلة لما كان للتخفيف على القاتل بخلاف القياس لم يثبت ذلك في العمد ; وهذا لأن وجوب الضمان بمعنى الجبران ، وحق صاحب النفس في نفسه كان ثابتا حالا فلا جبران في حقه إلا ببدل هو حال ; ولأن القود سقط شرعا إلى بدل فيكون ذلك البدل حالا ، كما لو سقط بالصلح على مال ، وهذا على أصله مستقيم فإنه يجعل فعل الأب موجبا للقود على ما نبينه .

وحجتنا في ذلك أن هذا ما وجب بنفس القتل فيكون مؤجلا كما لو وجب بقتل الخطأ وشبه العمد ; وهذا لأن المتلف ليس بمال وما ليس بمال لا يضمن بالمال أصلا ، وإنما عرفنا تقوم النفس بالمال شرعا ، والشرع إنما قوم النفس بدية مؤجلة في ثلاث سنين ، والمؤجل أنقص من الحال .

( ألا ترى ) أن في العرف يشتري الشيء بالنسيئة بأكثر مما يشتري بالنقد فإيجاب المال حالا بالقتل يكون زيادة على ما أوجبه الشرع معنى ، وكما لا يجوز باعتبار صفة العمدية الزيادة في الدية على قدر الحال فكذلك لا يجوز إثبات الزيادة فيه وصفا ، وبهذا تبين أن التأجيل ليس لمعنى التخفيف على الخاطئ بل ; لأن قيمة النفس شرعا دية مؤجلة بخلاف الإيجاب على العاقلة ; لأنه لا فرق في قيمة النفوس بين أن تكون مستوفاة من العاقلة أو من القاتل فكان الإيجاب على العاقلة لمعنى التخفيف على القاتل ، وهذا بخلاف المال الواجب بالصلح فإن ذلك يجب بالعقد [ ص: 93 ] ولهذا لا يتقدر بمقدار شرعا حتى لو وقع الصلح بأكثر من الدية قدرا جاز فكذلك إذا التزمه بمطلق العقد يكون ذلك حالا بمنزلة الأعواض في سائر العقود ، وإن كان الوالد قتل ولده خطأ فالدية على عاقلته ، وعليه الكفارة في الخطأ ، ولا كفارة عليه في العمد عندنا ; لأن فعله محظور محض كفعل الأجنبي .

، والمحظور المحض لا يصلح سببا لإيجاب الكفارة عندنا على ما نبينه فإن قيل : فأين ذهب قولكم : إن وجوب الكفارة بطريق السكر لما سلم الشرع له نفسه فأسقط القود عنه ؟ فقد وجد هذا المعنى هاهنا وقلتم : بأنه لا تجب الكفارة قلنا : إسقاط القود عنه شرعا متى كان بطريق العذر له ، والتخفيف عليه كان موجبا للكفارة ، وهاهنا امتناع وجوب القود عليه ; لانعدام الأهلية فيمن يجب له لا بطريق التخفيف والعذر للأب فبقي فعله حراما محضا لا شبهة فيه فلا يكون موجبا للكفارة ، وكذلك إن كان المولى قتل مملوكه عمدا ، وكذلك إن كان الولد مملوكا لإنسان فقتله أبوه عمدا فلا قصاص عليه لمولاه ; لأن وجوب القصاص للمولى بطريق الخلافة عن المقتول ، فإنه ينزل من المملوك منزلة وارث الحرمة ، فإذا اشترك الرجلان في قتل رجل أحدهما بعصا ، والآخر بحديدة فلا قصاص على واحد منهما هكذا نقل عن إبراهيم ; وهذا لأن القتل بالعصا لا يصلح أن يكون موجبا للقصاص ; لأن القصد به التأديب ، والآلة آلة التأديب فهو بمنزلة فعل الخاطئ ، والخاطئ ، والعامد إذا اشتركا في القتل لم يجب القصاص عليهما ; لأنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فقد انزهقت الروح عقيب فعلين أحدهما ليس بسبب لوجوب العقوبة ، ولا يدري أنه بأي الفعلين أزهق الروح فيمكن الشبهة من هذا الوجه ، فالقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات ، وبعد سقوط القصاص يجب المال فيتوزع عليهما نصفان ، وليس أحدهما بإضافة القتل إليه بأولى من الآخر .

ولا يقال : ينبغي أن يضاف القتل إلى فعل من استعمل السلاح فيه ; لأن السلاح آلة للقتل دون العصا ; وهذا لأن الإنسان قد يسلم من الجرح بالحديد ، ويتلف من الضرب بالعصا فهو بمنزلة ما لو جرحه رجلان أحدهما جراحة واحدة ، والآخر عشرة جراحات فإنه يجعل القتل مضافا إليهما على السواء لهذا المعنى ثم كل واحد منهما فيما لزمه من نصف الدية يجعل كالمنفرد به فنصف الدية على صاحب الحديدة في ماله ، ونصفها على صاحب العصا على عاقلته ، وكذلك لو قتلاه بسلاح ، وأحدهما صبي أو معتوه فلا قصاص عليهما عندنا ، وهو أحد قولي الشافعي ، وفي قوله الآخر يجب القود قياسا على العاقل البالغ بناء على قولين في عمد الصبي على ما بينا .

فأما الأب مع الأجنبي [ ص: 94 ] أو المولى مع الأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد ، والمملوك فلا قصاص على واحد منهما عندنا ، وقال الشافعي يجب القصاص على الأجنبي ; لأنهما قاتلاه عمدا محضا مضمون فيجعل كل واحد منهما كالمنفرد به في حكم القصاص كالأجنبيين عفا عن أحدهما أو بسقوط القود عن أحدهما ; لمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر كالأجنبيين إذا عفا عن أحدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية