الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، وإن اجتمع رهط على قتل رجل بالسلاح فعليهم فيه القصاص بلغنا عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بذلك ، وهو استحسان ، والقياس أن لا يلزمهم القصاص ، وقد ذكر في كتاب الإقرار ; لأن المعتبر في القصاص المساواة لما في الزيادة من الظلم على المتعدي ولما في النقصان من البخس بحق المتعدي عليه ولا مساواة بين العشرة ، والواحد وهذا شيء يعلم ببداهة العقول ، فالواحد من العشرة يكون مثلا للواحد فكيف تكون العشرة مثلا للواحد [ ص: 127 ] وأيد هذا القياس قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس واحدة ، ولكنا تركنا هذا القياس لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر رضي الله عنه بالقصاص عليهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ولأن شرع القصاص لحكمة الحياة وذلك بطريق الزجر كما قررنا ومعلوم أن القتل بغير حق في العادة لا يكون إلا بالتغالب ، والاجتماع ; لأن الواحد يقاوم الواحد فلو لم نوجب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لأدى إلى سد باب القصاص وإبطال الحكمة التي وقعت الإشارة إليها بالنص يوضحه أنه لا مقصود في القتل سوى التشفي ، والانتقام وذلك حاصل لكل قاتل بكماله كأنه ليس معه غيره وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله الواحد إذا قتل جماعة فإنه يقتل بهم جميعا على سبيل الكفاءة وقال الشافعي رضي الله عنه إن قتلهم على التعاقب يقتل بأولهم ويقضى بالديات لمن بعد الأول في تركته .

وإن قتلهم معا يقرع بينهم ويقضى بالقود لمن خرجت قرعته وبالدية للباقين واستدل بقوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، فقد جعل الله تعالى النفس بمقابلة النفس قصاصا فلا يجوز أن يجعل النفس بمقابلة النفوس قصاصا بالرأي ولأنا قد بينا أنه لا مساواة بينهما إلا أنا أوجبنا القصاص على العشرة بقتل الواحد لرد عليه القتل بغير حق وهذا لا يوجد في القتل قصاصا ; لأن ذلك يكون بقوة السلطان فلا تقع الحاجة فيه إلى التعاون ، والتغالب ولأن في إيجاب القصاص هناك تحقيق معنى الزجر وذلك لا يوجد هنا فإنه بعدما قتل الواحد إذا علم أنه ، وإن قتل جميع أعدائه لا يلزمه القصاص أخذ يتجاسر على قتل الأعداء ، وإذا علم أنه يستوفى الديات من تركته يتحرز من ذلك لإبقاء العناء لورثته فكان معنى الزجر فيما قلنا وحقيقة المعنى في الفرق أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قتل عشرة فوجب عليه القصاص بقدر ما أتلف إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك منه إلا بإسقاط ما بقي من حرمة نفسه فيسقط ذلك لضرورة الحاجة إلى استيفاء القصاص كما إذا غصب ساحة وبنى عليها سقط حرمة بنائه لوجوب رد الساحة ، وكذلك عندي في الساحة فأما هاهنا فكل واحد من المقتولين قد استحق على القاتل نفسا كاملة ، وليس في نفسه وفاء بالنفوس فلا يمكن أن يقتل بهم جميعا ، ولكن يترجح أولهم بالسبق فإن حقه ثبت في محل فارغ ، وإذا قتلهم معا رجح بالقرعة كما هو مذهبي في نظائره .

والدليل على أن كل واحد من القاتلين يستوفي الجزاءات في الخطأ يجب على كل واحد منهم جزء من الدية ، وأنه لو كان بعض الفاعلين مخطئا لم يجب القصاص على واحد منهم بخلاف [ ص: 128 ] ما إذا قتل جماعة بعضهم عمدا وبعضهم خطأ فإنه يلزمه القصاص لمن قتله عمدا ، وإن كان واحدا وحجتنا في ذلك أن العشرة إذا قتلوا واحدا يقتلون به وكانوا مثلا له جزاء لدمه فكذلك إذا قتل واحدا يقتل بهم ويكون مثلا لهم ; لأن المثل اسم مشترك فمن ضرورة كون أحد الشيئين مثلا للآخر أن يكون الآخر مثلا له كأسم الأخ فإن من ضرورة كون أحد الشخصين أخا للآخر أن يكون الآخر أخا له فلا يجوز أن يقال يلزمهم القصاص لرد غلة القتل بغير حق من غير اعتبار المماثلة فإن الزيادة في القدر أبلغ من الزيادة في الوصف ، وإذا كان لا يقتل المسلم بالمستأمن وعلى قوله بالذمي ، والحر بالعبد لانعدام المماثلة مع الحاجة إلى رد القتل عليه بغير حق فلأن لا يقتل العشرة بالواحد أولى ، وكذلك في كل موضع يتعذر اعتبار المماثلة نحو كسر العظام لا يوجب القصاص ، والحاجة إن رد عليه الجناية هاهنا بغير حق يتحقق هنا ومع ذلك يوهم الزيادة بمنع القصاص فتحقق الزيادة ; لأن يمنع من ذلك كان أولى فعرفنا أنه إنما يقتل العشرة بالواحد بطريق المماثلة وبيان ذلك ، وهو أن القتل مما لا يتجزأ .

وإذا اشترك الجماعة فيما لا يحتمل التجزؤ فأما أن ينعدم أصلا أو يتكامل في حق كل واحد منهم ، والدليل عليه أن كل واحد منهم لو حلف أن لا يقتله كان حانثا في يمينه بهذا الفعل ولا يجب إلا بوجوب كمال الشرط وفي الخطأ يجب على كل واحد منهم الكفارة كاملة ولا تجب الكفارة إلا بقتل كامل فأما الدية بمقابلة المحل فلصيانته عن الإهدار لا أن يكون ذلك جزاء الفعل ، والمحل واحد فلا يجب بمقابلته إلا دية واحدة ، والدليل عليه أن القتل يخرج ببعضه زهوق الروح ; لأن الروح لا يمكن أخذه حسا فطريق أثرها فيه قصدا هذا وقد تحقق من كل واحد منهم ، والحكم إذا حصل عقيب علل يضاف جميعه إلى كل علة فيجعل زهوق الروح محالا به على فعل كل واحد منهم فكان كل واحد منهم قاتلا على سبيل الكمال بمنزلة الأولياء في التزويج بتكامل الولاية لكل واحد منهم وفي هذا المعنى القتل الذي هو عدوان ، والقتل الذي هو جزاء سواء فإن الأولياء إذا اجتمعوا وقتلوا كان كل واحد منهم قاتلا بكماله .

والدليل عليه أن فيما هو المقصود بالقتل ، وهو التشفي ، والانتقام لا فرق بين الجزاء ، والعدوان ، وهو يتكامل لكل واحد من الأولياء كما يتكامل لكل واحد من العبدين فعرفنا أن كل واحد منهم مستوف حقه بكماله فلا حاجة إلى المصير إلى الدية وبه فارق النكاح فإن المرأة لو زوجت نفسها من جماعة لا يثبت النكاح لكل واحد منهم على هذه المرأة ; لأن المقصود الفراش ، والنسل وذلك ينعدم بالاشتراك فلا يتكامل لكل واحد منهم [ ص: 129 ] ثم هناك لما لم يحتمل التجزؤ في المحل انعدم أصلا عند الاشتراك وهاهنا لم ينعدم القتل فعرفنا أنه تكامل في حق كل واحد منهم وما قال بأن الواجب على كل منهم عشر القتيل كلام غير معقول ; لأن القصاص في نفس واحدة كما لا يحتمل التجزؤ استيفاء لا يحتمل التجزؤ وجوبا فلا يجوز أن يستحق بعض نفسه قصاصا وكيف يستقيم هذا ولو عفى أحد الأولياء حتى حيي جزء من المقتول سقط القصاص كله ، فإذا كان القصاص الواجب يسقط إذا لم يبق مستحقا في بعض النفس بعد العفو فلأن لا يجب ابتداء في بعض النفوس دون البعض أولى وتبين بهذا التحقيق أنه لا طريق سوى ما قلنا إن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قاتل له على الكمال ، وكذلك الأولياء إذا اجتمعوا واستوفوا القصاص كان كل واحد منهم قاتلا له على الكمال مقدار حقه ليحيوه بدفع شر قاتل أبيه عن نفسه وكان ليس معه غيره فلا حاجة إلى - القضاء بالدية ولا إلى الترجيح بالسبق ، أو إلى القرعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية