الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وتفسير العمد من وجهين : أحدهما : أنه عبارة عن فعل يترتب على قصد صحيح إليه ، وبالأبوة والملك لا ينعدم القصد الصحيح إلى الفعل ; وهذا لأن ضد العمد الخطأ فإذا كان الخطأ ما يكون عن غير قصد من الفاعل إليه بعينه عرفنا أن العمد ما يكون عن قصد ، وعلى هذا نقول : يجب القصاص على شريك الصبي ، والمجنون ; لأن للصبي والمجنون قصدا صحيحا فكان فعلهما عمدا ، وللعمد تفسير آخر في القتل شرعا ، وهو أنه محظور محض ليس فيه الإباحة ; لأن المتعلق به شرعا العقوبة قال : عليه السلام { العمد قود } ، ولا تجب العقوبة إلا جزاء على فعل هو محظور محض ، وفعل الأب والمولى محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة ; لأن في حق الأب قد انضم إلى ارتكاب الفعل المحرم معنى قطيعة الرحم .

وفي حق المولى انضم إلى الفعل المحرم الإتيان بضد ما أمر به من الإحسان إلى المماليك ، والقتل لا يحل بملك الملكية بحال فلا يتمكن بسببه شبهة فيه بمنزلة من شرب خمر نفسه يلزمه الحد ; لأنه لا أثر للملك في إباحة شرب الخمر فلا يخرج الفعل باعتباره من أن يكون محظورا محضا ، وعلى هذا الطريق لا يجب القود على شريك الصبي ، والمعتوه ; لأن فعلهما لا يوصف بأنه محظور محض ، وفي الحقيقة الكلام ينبني على أن فعل الأب موجب لقود عنده ثم سقط عنه القود بعفو الشرع منه عن الأب فلا يسقط عن الآخر ; لأن عند أوان السقوط أحد القاتلين متميز عن الآخر .

والدليل على ذلك أن سبب القود شرعا هو العمد ، وثبوت الحكم بثبوت السبب فإذا كانت الأبوة لا توجب نقصانا في السبب لا يمنع ثبوت الحكم أيضا ، وإنما لا يستوفى لكي لا يكون الولد سبب إفناء الوالد بعد أن كان الوالد سبب إيجاده ، وهذا في حقيقة الاستيفاء دون الوجوب فيثبت الوجوب حكما للسبب ثم يتعذر الاستيفاء ; لهذا المعنى فيسقط شرعا .

والدليل عليه أن عندكم لا تجب الكفارة على الوالد ، ولو لم يكن الفعل موجبا للقود لوجبت الكفارة به ، وإن الأب لو قتل ابنه عمدا كان الولد شهيدا لا يغسل ، وإنما لا يغسل إذا كان القتل غير موجب للمال بنفسه ، وهذا بخلاف الخاطئ مع العامد ; لأن فعل الخاطئ غير موجب فاختلط الموجب بغير الموجب في المحل فيمكن الشبهة لاتحاد المحل [ ص: 95 ] يقرره : أن الخطأ معنى في الفعل .

( ألا ترى ) أنه يوصف الفعل به فيقال : قتل خطأ ، وقد اجتمع الفعلان في محل واحد ، فأما الأبوة فمعنى في الفاعل .

( ألا ترى ) أن الفاعل يوصف به فيقال أب قاتل فأحد الفاعلين متميز عن الآخر ، وحجتنا في ذلك أن هذا القتل ثم موجب للدية فلا يكون موجبا للقصاص كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا ، وبيان الوصف أن الواجب على الأب بهذا الفعل الدية لا غير ، فإنه هو الذي يستوفى منه ، وإنما يراد بالوجوب الاستيفاء فإذا كان لا يستوفى منه إلا الدية عرفنا أنه موجب للدية .

والدليل على أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص أن السبب لا ينعقد موجبا لحكمه إلا في محل صالح له ، وبعد صلاحية المحل لا يكون موجبا للحكم إلا باعتبار الأهلية فيمن يجب له ، وفيمن يجب عليه .

( ألا ترى ) أن الإتلاف كما لا يكون موجبا للضمان بدون محل صالح له ، وهو المال المتقوم لا يكون موجبا بدون الأهلية فيمن يجب له ، وفيمن يجب عليه حتى إن المسلم إذا أتلف مال مسلم لا أمان له أو الحربي إذا أتلف مال المسلم لا يجب الضمان ، والبيع كما لا ينعقد شرعا إلا في محل صالح لا ينعقد إلا بعد وجوب الأهلية فيمن يباشره .

إذا عرفنا هذا فنقول : العمد موجب للقود بشرط الأهلية فيمن يجب له وعليه وذلك لا يوجد في قتل الصبي ، والمجنون لانعدام الأهلية فيمن تجب عليه العقوبة ، ولا في قتل الأب لانعدام الأهلية فيمن تجب له على ما بينا أن الولد لا يكون من أهل أن يجب له القتل على والده ; لأن في الإيجاب استحقاق نفسه شرعا ، وإذا لم يكن هو أهلا لمباشرة إتلافه حقيقة بصفة الإباحة لا يكون أهلا لاستحقاق إتلافه شرعا ، فلا يكون فعله موجبا للقصاص لانعدام الأهلية ولهذا كان موجبا الدية المغلظة في ماله ; لأنه خرج من أن يكون موجبا للقود لانعدام الأهلية فيمن يجب له ، وذلك لا يوجد في الدية ، ولهذا لم يكن موجبا للكفارة ; لأن انعدام وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له الشبهة في أصل الفعل فلا يخرج من أن يكون محظورا ، وفي غسله روايتان في إحدى الروايتين عن أبي يوسف يغسل ; لأن الغسل موجب للمال ، وفي الرواية الأخرى لا يغسل ; لأن امتناع وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له وذلك لا يتعدى إلى حكم الغسل .

فإن قيل : هذا ممنوع فإن الولد يرث القصاص على أبيه حتى يسقط وبدون الأهلية لا يجب الحق للوارث قلنا : هذا فاسد ; لأنه إنما لم يكن أهلا لإيجاب القود على الأب لما فيه من إتلافه حكما ، وهذا لا يوجد في الوارثة ; لأن الإتلاف الحكمي كان ثابتا قبل أن يرثه الولد بل في ثبوت الإرث للولد إحياء [ ص: 96 ] للأب حقيقة وحكما فإنه يسقط القود إذا ورثه الابن ، ولا يسقط إذا لم يرثه وهو نظير الولد في أنه لا يسترق والده ثم يشتري والده المملوك فيعتق عليه ، والدليل عليه أن الأبوة لو طرأت على قصاص موجب أسقطته ، وإذا اقترنت بالسبب دفعت الوجوب بطريق الأولى ; لأن تأثير الشيء في الحكم مقترنا بالسبب أقوى من تأثيره طارئا على السبب ، وإذا ثبت أن فعل الأب غير موجب عرفنا أنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فكان كالخاطئ مع العامد بخلاف ما إذا عفا عن أحد القاتلين .

وقوله : الأبوة معنى في الفاعل لا معتبر به فإنه ، وإن كان في الفاعل فقد تعدى إلى الفعل حتى أخرجه من أن يكون موجبا فهو نظير الخطأ في الفاعل بأن رمى إلى إنسان يظنه كافرا ، وهو مسلم فإن الخطأ هاهنا باعتبار معنى في الفاعل ولكن لما تعدى إلى الفعل صار ذلك شبهة في حق شريكه في الفعل فكذلك هاهنا ، والدليل عليه أن مسلمين لو رميا إلى صيد أحدهما بسهم ، والآخر ببندقية لم يحل تناول الصيد ، وكذلك لو رمى مسلم ومجوسي إلى الصيد ، وفي أحد الموضعين الحرمة باعتبار معنى في الفعل وفي الموضع الآخر باعتبار معنى في الفاعل ، وهو كونه مجوسيا لكن لما تعدى إلى الفعل التحق بالمعنى الذي هو في الفعل في إيجاب الحرمة فهذا مثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية