الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : وإذا قتل الحر المملوك عمدا فعليه القصاص عندنا وقال الشافعي لا قصاص عليه لقوله تعالى { الحر بالحر ، والعبد بالعبد } ومقابلة الحر بالحر يقتضي نفي مقابلة الحر بالعبد وهذا على وجه التفسير للقصاص المذكور في قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } فيكون بيان أن المساواة التي هي معتبرة إنما تكون عند مقابلة الحر بالحر لا عند مقابلة الحر بالعبد ، وعن ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم قالا : السنة أن لا يقتل العبد بالحر ، والمعنى فيه أن هذا أحد نوعي القصاص فلا يجب على الحر بسبب المملوك كالقصاص في الأطراف ، بل أولى ; لأن حرمة الطرف دون حرمة النفس ، فالأطراف تابعة للنفس ، وإذا كان طرف الحر لا يقطع بطرف العبد مع خفة حرمة الطرف فلأن لا يقتل الحر بالعبد مع عظم حرمة النفس كان ذلك أولى وتأثيره أن القصاص ينبني على المساواة ولا مساواة بين الأحرار ، والعبيد فإن العبد مملوك مالا ، والحر مالك ، والمالكية في نهاية من العز ، والكمال ، والمملوكية في نهاية من الذل ، والنقصان ، والدليل عليه أن المملوك قائم من وجه هالك من وجه فإن الحرية حياة ، والرق تلف ; ولهذا كان المعتق منسوبا بالولاء إلى المعتق ; لأنه أحياه بالإعتاق حكما ولا مساواة بين القائم من كل وجه وبين القائم من وجه ، والهالك من وجه ، والدليل عليه أن التفاوت ظاهر بينهما في بدل النفس ، وهو المال وبه تبين أن الرق أثر في النفسية ; ولهذا المعنى لا يجب القصاص على المولى بقتل عبده ولو لم يؤثر الرق في النفسية لكان المولى كالأجنبي في قتل العبد فيلزمه القصاص ولأن المقتول كان بعرض أن يصير من خول القاتل [ ص: 130 ] بأن يشتريه فيمنع ذلك القصاص المساواة بينهما في حكم القصاص كالمسلم مع المستأمن وحجتنا في ذلك قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } فهذا يقتضي وجوب القصاص بسبب كل قتل إلا ما قام عليه الدليل فأما قوله الحر بالحر ، فهو ذكر بعض ما شمله العموم على موافقة حكمه فلا يجب تخصيص ما بقي .

( ألا ترى ) أنه كما قابل العبد بالعبد قابل الأنثى بالأنثى ، ثم لا يمنع ذلك مقابلة الذكر بالأنثى وفي مقابلة الأنثى بالأنثى دليل على وجوب القصاص على الحرة بقتل الأمة وفائدة هذه المقابلة ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانت المقابلة بين بني النضير وبين بني قريظة وكانت بنو النضير أشرف وكانوا يعدون بني قريظة على النصف منهم فتواضعوا على أن العبد من بني النضير بمقابلة الحر من بني قريظة ، والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قريظة فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم وبيانا أن الحر بمقابلة الحر ، والعبد بمقابلة العبد ، والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعا ، وعن علي بن أبي طالب قال : يقتل الحر بالعبد وما روي عن ابن عمر وابن الزبير محمول على السيد إذا قتل عبده ، فقد كانوا مختلفين في ذلك فمنهم من كان يوجب القصاص ويستدل بقوله عليه السلام { من قتل عبده قتلناه } فإنما قال ذلك ردا على من يقول منهم لا يقتل السيد بعبده ، والمعنى فيه أن دم العمد مضمون بالقصاص فيستوي أن يكون قاتله حرا ، أو عبدا كدم الحر وبيان الوصف أن العبد إذا قتل عبدا يلزمه القصاص ، والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فيستدعي وجوبها انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة الحر ، والعبد فيه سواء وسنقرر هذا الكلام في مسألة قتل المسلم الذمي والذي يختص بهذه المسألة حرفان أحدهما أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الذمي ، وقد تحقق ذلك ، فالرق ، والمملوكية لا يؤثر في الدم ; لأن الرق إنما يؤثر فيما يتصور ورود القهر عليه وذلك أجزاء الجسم فأما الحياة فلا تدخل تحت القهر .

والدليل عليه أن العبد فيه يبقى على أصل الحرية حتى لا يملك المولى التصرف فيه إقرارا عليه به ولا استيفاء منه إلا أن المولى إذا قتله لا يلزمه القصاص لانعدام المستوفي ; لأنه لو كان القاتل غيره كان هو المستوفي بولاية الملك ، والقتل لا يحرمه ذلك ولا يكون هو مستوفيا العقوبة من نفسه ونقصان بدل الدم كنقصان صفة المملوكية في محله لا في غيره كنقصان بدل الدم بسبب الأنوثة إنما يكون للملوكية في محله فأما الحياة فلا تحلها الأنوثة ، والثاني أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الإحراز ، والإحراز إنما يكون بالدار ، أو بالدين ، والمملوك في ذلك مساو للحر ، والحكمة في شرع القصاص الحياة [ ص: 131 ] وفي ذلك المعنى الحر ، والمملوك سواء ، وليست النفوس قياس الأطراف ; لأن وجوب القصاص هناك يعتمد المساواة في الجزء المبان ; ولهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء ، والرق ثابت في أجزاء الجسم فتنعدم بسببه المساواة بينهما في الأطراف مع أن طرف العبد في حكم المال عندنا ; ولهذا لا يكون مضمونا بالقصاص على أحد عبدا كان ، أو حرا بخلاف النفس ، فالمعتبر فيه المساواة في الحياة ; ولهذا لا نقتل النفس الصحيحة بالنفس الزمنة ، وقد تحققت المساواة هاهنا .

وعلى هذا لو قتل رجل صبيا فعليه القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة ، وكذلك لو قتل رجل امرأة وروي عن علي رضي الله عنه يتخير أولياؤها بين أن يستوفوا ديتها وبين أن يعطوا القاتل نصف ديته ، ثم يقتلونه قصاصا وهذا بعيد لا يصح عن علي رضي الله عنه ، وقد كان أفقه من أن يقول القصاص لم يكن واجبا ، ثم يجب بإعطاء المال وعلى هذا لو قتل العبد الحر عمدا ، والمرأة الرجل فعليهما القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة والشافعي لا يخالفنا في هذا فإنه يرى استيفاء الأنقص بالأكمل قصاصا ، وإنما يأبى استيفاء الأكمل بالأنقص ، فإذا تبين هذا في حالة الانفراد فكذلك عند الاشتراك حتى إذا اشترك جماعة من الرجال في قتل حرة ، أو أمة فعليهم القصاص كما لو اشتركوا في قتل رجل حر .

التالي السابق


الخدمات العلمية