الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثالث عشر والمائتان بين قاعدة الأملاك الناشئة عن الإحياء وبين قاعدة الأملاك الناشئة عن غير الإحياء )

اعلم أن هذا الموضع مشكل على مذهبنا في ظاهر الأمر فإن الإحياء عندنا إذا ذهب ذهب الملك ، وكان لغيره أن يحييه ، ويصير مواتا كما كان .

وقال سحنون والشافعي رضي الله عنهما لا يزول الملك بزوال الإحياء لوجوه الأول قوله صلى الله عليه وسلم { من أحيا أرضا ميتة فهي له } فجعل صلى الله عليه وسلم له الملك ، والأصل عدم إبطاله ، واستصحابه الثاني قياس الإحياء على البيع والهبة وسائر أسباب التمليك . الثالث القياس على من تملك لقطة ثم ضاعت منه فإن عودها إلى حال الالتقاط لا يسقط ملك متملكها ، وهذا مساو للمسألة في العود للحالة السابقة . والجواب عن الأول أن الحديث يدل لنا بسبب أن القاعدة أن ترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم ، وقد رتب الملك على وصف الإحياء فيكون الإحياء سببه ، وعلته ، والحكم ينتفي لانتفاء علته وسببه فيبطل الملك بهذا الحديث لهاتين القاعدتين سلمنا أنه لا يدل لنا غير أن قوله عليه السلام فهي له لفظ يقتضي [ ص: 19 ] مطلق الملك فإن لفظ له ليس من صيغ العموم بل ذلك على أصل ثبوت الملك ، ونحن حينئذ نقول بموجبه فإنا نثبت مطلق الملك من الإحياء .

وإنما يحصل مقصودا أن لو اقتضى الحديث الملك بوصف العموم على وجه الدوام ، وليس كذلك ، وعن الثاني الفرق بأن الإحياء سبب فعلي تملك به المباحات من الأرض ، وأسباب تلك المباحات الفعلية ضعيفة لورودها على غير ملك سابق بخلاف أسباب الملك القولية لا يبطل الملك ببطلان أصواتها وانقطاعها لأنها ترد على مملوك غالبا فلتأصل الملك قبلها قويت إفادتها للملك لاجتماع إفادتها مع إفادة ما قبلها ، وكذلك إذا ورد البيع على الإحياء لم ينتقض الملك بعد ذلك لتظاهر الأسباب فلهذا المعنى قلنا إذا تملك الصيد بالاصطياد ثم توحش بطل الملك فيه ، والسمك إذا انفلت في النهر يبطل ملكه ، والماء إذا حير ثم اختلط بالنهر أو الطير أو النحل أبين من ذلك كله إذا انفلت وتوحش بطل الملك فيه نظرا لهذه العلة فإن قلت الإقطاع سبب قولي وارد على مملوك للمسلمين ، ومع ذلك لا يملك بيعه قلت هذا سؤال عكس لأنا ادعينا قصور الإحياء ، وأنتم أبديتم حكم القصور بدون الإحياء ، وإبداء الحكم بدون سبب أو علة عكس ، وهو عكس النقيض ، وهو إبداء العلة بدون حكمها [ ص: 20 ] فإن قلت فإذا أحيا في الإقطاع لم لا يبطل ملكه ببطلان إحيائه قلت ذلك لسبب غير الإحياء ، وهو أن الإقطاع حكم من أحكام الأئمة لا ينقض ، وتصان أحكام الأئمة عن النقض ، وعن الثالث أن تملك الملتقط ورد على ما تقدم فيه الملك ، وتقرر فكان تأثير السبب فيه أقوى لما تقدم ، ويؤكده أن الأسباب القولية ونحوها ترفع ملك الغير كالبيع ونحوه فهي في غاية القوة ، وأما الفعل بمجرده فليس له قوة رفع ملك الغير بل يبطل ذلك الفعل كمن بنى في ملك غيره فلذلك ذهب أثره بذهابه .

وهذا فقه حسن على القواعد فليتأمل ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه في بادئ الرأي أقوى وأظهر ، وبهذه المباحث ظهر الفرق بين القاعدتين من جهة القوة والضعف كما تقدم بسطه وتقريره .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثالث عشر والمائتان بين قاعدة الأملاك الناشئة عن الإحياء وبين قاعدة الأملاك الناشئة عن غير الإحياء إلى منتهى قوله ، وهذا مساو للمسألة في العود للحالة السابقة )

قلت ما قاله حكاية أقوال واحتجاج ولا كلام في ذلك قال

( والجواب عن الأول أن الحديث يدل لنا بسبب أن القاعدة أن ترتيب الحكم على الوصف يدل على علية ذلك الوصف لذلك الحكم ، وقد رتب الملك على وصف الإحياء فيكون الإحياء سببه ، وعلته ، والحكم ينتفي لانتفاء علته وسببه فيبطل الملك بهذا الحديث لهاتين القاعدتين )

قلت أما القاعدتان فمسلمتان صحيحتان ، ولكن لا يلزم ما قاله من بطلان هذا الحكم لأن الإحياء قد ثبت فترتب عليه مسببه ، ولم يرتفع الإحياء ، ولا يصح ارتفاعه لأن ذلك من باب ارتفاع الواقع ، وهو محال ، وإنما مغزاه أن الإحياء لم يستمر ، وذلك غير لازم في الأسباب كلها فإن الملك المرتب على الشراء أو على الإرث أو على الهبة لم تستمر أسبابه فكان يلزم على قياس قوله متى غفل الإنسان عن تجديد شراء مشتراه أن يبطل ملكه عليه ، وذلك باطل قطعا فجوابه هذا غير صحيح قال ( سلمنا أنه لا يدل لنا غير أن قوله عليه الصلاة والسلام فهي له لفظ يقتضي [ ص: 19 ] مطلق الملك إلى آخر قوله بوصف العموم على وجه الدوام ، وليس كذلك )

قلت ما قاله من أن الحديث لا يقتضي الملك بوصف الدوام صحيح ، ولكن هنا قاعدة شرعية ، وهي أن الملك يدوم بعد ثبوت سببه إلا أن يلزمه ما يناقضه قال ( وعن الثاني الفرق بأن الإحياء سبب فعلي تملك به المباحات من الأرض ، وأسباب تملك المباحات الفعلية ضعيفة لورودها على غير ملك سابق )

قلت ما قاله دعوى يقابل بمثلها بأن يقال بأن الأسباب القولية هي الضعيفة لورودها على ملك سابق فيعارض الملكان السابق واللاحق وأما المملوك بالإحياء فلم يسبقه ما يعارضه فهو أقوى قال ( بخلاف أسباب الملك القولية لا يبطل الملك ببطلان أصواتها وانقطاعها لأنها ترد على مملوك غالبا إلى منتهى قوله نظرا لهذه العلة ) قلت كل ذلك دعوى ، وهو عين المذهب أو مرتبة عليه ، وقد سبق جوابه .

قال ( فإن قلت الإقطاع سبب قولي وارد على مملوك للمسلمين ، ومع ذلك لا يملك بيعه ) قال ( قلت هذا سؤال عكس إلى قوله وهو إبداء العلة بدون حكمها ) قلت إذا كان سؤال عكس فلم لا يكون واردا وقادحا [ ص: 20 ] قال ( فإن قلت فإذا أحيا في الإقطاع لم لا يبطل ملكه ببطلان إحيائه قلت ذلك لسبب غير الإحياء إلى آخر جوابه ) قلت جوابه هنا صحيح قال ( وعن الثالث أن تملك الملتقط ورد على ما تقدم فيه الملك ) إلى آخر قوله ، وهذا فقه حسن على القواعد فليتأمل قلت جوابه هنا مبني على دعواه قوة الأسباب القولية فجوابه ما سبق قال ( ومذهب الشافعي رضي الله عنه في بادئ الرأي أقوى وأظهر إلى آخر قوله في هذا الفرق ) قلت قد تبين أن مذهب الشافعي أقوى على الإطلاق ، والله تعالى أعلم قال .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثالث عشر والمائتان بين قاعدة الأملاك الناشئة عن الإحياء وبين قاعدة الأملاك الناشئة عن غير الإحياء ) بناء على مذهبنا في الإحياء من أنه إذا ذهب الملك ، وصار مواتا كما كان ، وكان لغير من أحياه أولا أن يحييه فهو عندنا مخالف لغيره من أسباب الملك القولية فإنها لا يبطل الملك ببطلان أصواتها وانقطاعها ، وذلك أن الإحياء لما كان من الأسباب الفعلية التي لا ترد إلا على غير ملك سابق ضرورة أنه سبب تملك به المباحات من الأرض كان ضعيفا يذهب الملك الناشئ عنه بذهابه كما يبطل تملك الصيد الحاصل بالاصطياد بتوحشه وتملك السمك برجوعه في النهر ، وتملك الماء باختلاطه بالنهر وتملك الطير والنحل بانفلاته وتوحشه ، وأما غير الإحياء من الأسباب القولية فإنه لما كان يرد غالبا على مملوك قد تأصل فيه الملك قبله قويت إفادته للملك لاجتماع إفادته مع إفادة ما قبله حتى إن الملك الحاصل به لا ينقض بعد بطلان أصوات تلك الأسباب القولية وانقطاعها .

ونظير ذلك أمران ( الأول ) ما إذا ورد البيع على الإحياء فإن الملك الحاصل به لا ينتقض بعد ذلك لتظافر الأسباب ( والثاني ) تملك الملتقط فإنه لما ورد على ما تقدم فيه الملك وتقرر قوي بحيث لا ينتقض بعود اللقطة إلى حال الالتقاط ، ويؤكد لك ذلك أن الأسباب القولية ونحوها ترفع ملك الغير كالبيع ، ونحوه فهي في غاية القوة .

وأما الفعل بمجرده فليس له قوة رفع ملك الغير بل يبطل ذلك الفعل كمن بنى في ملك غيره فلذلك ذهب أثره بذهابه ، والإقطاع وإن كان سببا قوليا واردا على مملوك للمسلمين إلا أنه بدون الإحياء حكم بدون سبب أو علة فلذا لا يملك بيعه فهو عكس [ ص: 42 ] النقيض للذي ادعيناه ، وهو إبداء العلة التي هي الإحياء بدون حكمها الذي هو استمرار الملك ، وعدم قصوره لضعفها ، وعدم بطلان ملك الإقطاع إذا أحيا فيه ببطلان إحيائه إنما هو لتحقق سبب غير الإحياء حينئذ ، وهو أن الإقطاع حكم من أحكام الأئمة فلا ينقض لأن أحكام الأئمة تصان عن النقض ، والملك الذي جعله صلى الله عليه وسلم للمحيي بقوله { من أحيا أرضا ميتة فهي له } مرتب على وصف الإحياء ، والقاعدة أن ترتب الحكم على الوصف يدل عليه ذلك الوصف لذلك الحكم فيكون الإحياء سببه وعليته .

والقاعدة أن الحكم ينتفي بانتفاء علته وسببه فهذا الحديث لهاتين القاعدتين إنما يقتضي الملك عند ذلك كما يدعي الخصم على أن قوله صلى الله عليه وسلم فهي له لفظ يقتضي مطلق الملك لأن لفظ له ليس من صيغ العموم بل ذلك على أصل ثبوت الملك ، ولا داع في ثبوت مطلق الملك بالإحياء بل نحن نقول بموجبه أيضا ، ولا يقتضي الملك بوصف الدوام حتى يحصل به مقصود الخصم إذا علمت هذا ظهر لك اندفاع الإشكال الوارد على مذهبنا في ظاهر الأمر ، وأنه فقه حسن على القواعد ، وأن مقابله لم يكن أقوى منه إلا في بادئ الرأي فتأمل كذا قال الأصل .

وأما على مقابل مذهبنا ، وهو قول سحنون والشافعي رضي الله عنهما لا يزول الملك بزوال الإحياء لوجوه : ( الأول ) أنه صلى الله عليه وسلم جعل له في الحديث السابق الملك ، والأصل عدم إبطاله ، واستصحابه ( والثاني ) قياس الإحياء على البيع والهبة وسائر أسباب التمليك ( والثالث ) القياس على من تملك لقطة ثم ضاعت منه فإن عودها إلى حال الالتقاط لا يسقط ملك متملكها فلا يسلم الفرق بين الإحياء وغيره من أسباب التمليك قال العلامة ابن الشاط ما خلاصته ومذهب الشافعي أقوى من مذهبنا على الإطلاق لا في بادئ الرأي فقط كما زعم الشهاب لوجهين ( الأول ) أن ما قاله في الفرق بينهما مجرد دعوى يقابل بمثلها بأن يقال إن الأسباب القولية هي الضعيفة لورودها على ملك سابق فيتعارض الملكان السابق واللاحق .

وأما المملوك بالإحياء فلم يسبقه ما يعارضه فهو أقوى ( الوجه الثاني ) أن ما قاله في الجواب عن الحديث السابق من أنه يدل بسبب القاعدتين المذكورتين على بطلان الملك بذهاب الإحياء غير صحيح فإن القاعدتين ، وإن كانتا صحيحتين مسلمتين لكن لا يلزمهما ما قاله من بطلان هذا الحكم لأن الإحياء قد ثبت فترتب عليه مسببه ، ولم يرتفع الإحياء بل لا يصح ارتفاعه لأن ذلك من باب الارتفاع الواقع وهو محال ، وإنما مغزاه أن الإحياء لم يستمر ، وذلك غير لازم في الأسباب كلها [ ص: 43 ] فإن الملك المرتب على الشراء أو على الإرث أو على الهبة لم تستمر أسبابه فكان يلزم على قياس قوله أنه متى غفل الإنسان عن تجديد شراء مشتراه أن يبطل ملكه عليه ذلك باطل قطعا ، وما قاله من أن الحديث لا يقتضي الملك بوصف الدوام ، وإن كان صحيحا إلا أن هنا قاعدة شرعية ، وهي أن الملك يدوم بعد ثبوت سببه إلا أن يلزمه ما يناقضه ا هـ .

فتأمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم




الخدمات العلمية