الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الرابع عشر والمائتان بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد وما يجب الوفاء به منه وما لا يجب )

قال الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذبا محرما ، وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا .

وقال عليه السلام من { علامة المنافق ثلاث إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف } فذكره في سياق الذم دليل على التحريم ، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وعد المؤمن واجب أي وعده واجب الوفاء به [ ص: 21 ] وفي الموطإ { قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكذب لامرأتي فقال صلى الله عليه وسلم لا خير في الكذب فقال يا رسول الله أفأعدها ، وأقول لها فقال عليه السلام لا جناح عليك } فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل فإن رضى النساء إنما يحصل به ، ونفى الجناح على الوعد ، وهو يدل على أمرين : ( أحدهما ) أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب

( وثانيها ) أن إخلاف الوعد لا حرج فيه [ ص: 22 ]

ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ، ولما ذكره مقرونا بالكذب ، ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه ، وفي أبي داود قال عليه السلام { إذا وعد أحدكم أخاه ، ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه } فهذه الأدلة تقتضي عدم الوفاء بالوعد ، وأن ذلك مباح ، والكذب ليس بمباح فلا يكون الوعد يدخله الكذب عكس الأدلة الأول ، واعلم أنا إذا فسرنا الكذب بالخبر الذي لا يطابق لزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة مع أن ظاهر الحديث يأباه ، وكذلك التأثيم فمن الفقهاء من قال الكذب يختص بالماضي والحاضر ، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل فلا يدخله الكذب ، وسيأتي الجواب عن الآية ونحوها إن شاء الله [ ص: 23 ] تعالى ، ومنهم من يقول لم يتعين عدم المطابقة في المستقبل بسبب أن المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم ، ولم يقع فيه بعد وجود ولا عدم فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة ، ولا بالمطابقة لأنه لم يقع بعد ما يقتضي أحدهما ، وحيث قلنا الصدق القول المطابق ، والكذب القول الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل ، وذلك مختص بالحال والماضي .

وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة وعدمها ، ونحن متى حددنا بوصف نحو قولنا في الإنسان الحيوان الناطق أو نحوه إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقوة ، وإلا لكان كله إنسانا لأنه قابل للحياة ، والنطق ، وهذا التعليل يؤيد القول الأول [ ص: 24 ] ومنهم من يقول الكل يدخله الكذب ، وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف فعلى هذا القول لا فرق بين الكذب والوعد ، والأول هو الذي ظهر لي لعدم تعين المطابقة وعدمها اللذين هما ضابطا الصدق والكذب ، وعلى ذلك يقع الفرق بينه وبين الكذب وبين الصدق فلا يوصف بواحد منهما ، ويختص بالماضي والحاضر فإن قلت يلزم ذلك في وعد الشرائع ووعيدها فلا يوصفان بواحد منهما ، وليس كذلك لقوله تعالى { وعدكم وعد الحق } ، وصدق الله وعده { الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } { هل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إلى غير ذلك من النصوص الدالة على دخول الصدق في وعد الله تعالى ووعيده ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ( قلت ) الله تعالى يخبر عن معلوم ، وكل ما تعلق به العلم تجب مطابقته بخلاف واحد من البشر إنما ألزم نفسه أن يفعل مع تجويز أن يقع ذلك منه ، وأن لا يقع فلا تكون المطابقة وعدمها معلومين ، ولا واقعين فانتفيا بالكلية وقت الإخبار ، واعلم أن الفقهاء اختلفوا في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا قال مالك إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت نعم ثم بدا لك [ ص: 25 ] لا يلزمك ، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله لزمك لإبطالك مغرما بالتأخير قال سحنون الذي يلزم من الوعد قوله اهدم دارك ، وأنا أسلفك ما تبني به أو اخرج إلى الحج ، وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة ، وأنا أسلفك لأنك أدخلته بوعدك في ذلك أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء من مكارم الأخلاق .

وقال أصبغ يقضى عليك به تزوج الموعود أم لا ، وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا لزمك تسبب في ذلك أم لا ، والذي لا يلزم من ذلك أن تعده من غير ذكر سبب فيقول لك أسلفني كذا فتقول نعم بذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، وإن وعدت غريمك بتأخر الدين لزمك لأنه إسقاط لازم للحق سواء قلت له أؤخرك أو أخرتك ، وإذا أسلفته فعليك تأخيره مدة تصلح لذلك ، وحينئذ نقول وجه الجمع بين الأدلة المتقدمة التي يقتضي بعضها الوفاء به ، وبعضها عدم الوفاء به أنه إن أدخله في سبب يلزم بوعده لزم كما قال مالك وابن القاسم وسحنون أو وعده مقرونا بذكر السبب كما قاله أصبغ لتأكد العزم على الدفع حينئذ ويحمل عدم اللزوم على خلاف ذلك مع أنه قد قيل في الآية إنها نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا ، وما جاهدوا ، وفعلنا أنواعا من الخيرات ، وما فعلوها ، ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب ، ولأنه تسميع بطاعة الله تعالى ، وكلاهما محرم ومعصية اتفاقا .

وأما ما ذكر من الإخلاف في صفة المنافق فمعناه أنه سجية له ، ومقتضى حاله الإخلاف ، ومثل هذه السجية يحسن الذم بها كما يقال سجيته تقتضي البخل والمنع فمن كانت صفاته تحث على الخير مدح أو تحث على الشر ذم شرعا وعرفا ، واعلم أنه لا بد في هذا الفرق من مخالفة بعض الظواهر إن جعلنا الوعد يدخله الكذب بطل { لقوله عليه السلام للسائل لما قال له أأكذب لامرأتي قال لا خير في الكذب } ، وأباح له الوعد ، وهو ظاهر في أنه ليس بكذب ، ولا يدخله الكذب ، ولأن الكذب حرام إجماعا فيلزم معصيته فيجب الوفاء به نفيا للمعصية ، وليس كذلك .

وإن قلنا إن الكذب لا يدخله ، ورد علينا ظواهر وعد الله ووعيده فلا بد من الجمع بينهما ، وما ذكرته أقرب الطرق في ذلك . [ ص: 26 ]

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

( الفرق الرابع عشر والمائتان بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد ، وما يجب الوفاء به منه ، وما لا يجب إلى آخر قوله ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { وأي المؤمن واجب أي وعده } واجب الوفاء به ) قلت ما قاله صحيح ، ولا كلام فيه [ ص: 21 ]

قال ( وفي الموطإ { قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكذب لامرأتي فقال صلى الله عليه وسلم لا خير في الكذب فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدها وأقول لها فقال عليه الصلاة والسلام لا جناح عليك } فمنعه من الكذب المتعلق بالمستقبل فإن رضى النساء إنما يحصل به ) قلت ما قاله من أنه منعه من الكذب المتعلق بالمستقبل غير مسلم ، وهي دعوى لم يأت عليها بحجة ، ولعله أراد بالكذب لها أن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو من غير ذلك مما يكون فيه تغييظها بزوجته فلم يتعين أن المراد ما ذكره كيف وأن ما ذكره هو عين الوعد فإنه لا بد أن يكون ما يخبرها عن وقوعه في المستقبل متعلقا بها ، وإلا فلا حاجة لها هي فيما يتعلق بغيرها .

وما معنى الحديث عندي إلا أنه صلى الله عليه وسلم منعه من أن يخبرها بخبر كذب يقتضي تغييظها به ، وسوغ له الوعد لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازما عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما ، ويتخرج ذلك في قسم العزم على الإخلاف على الرأي الصحيح المنصور عندي من أن العزم على المعصية لا مؤاخذة به إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع من الإخلاف والله أعلم .

قال ( ونفي الجناح عن الوعد ، وهو يدل على أمرين أحدهما أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب ) قلت قد تبين أنه لم يجعله قسيم الكذب من حيث هو كذب ، وإنما جعله قسيم الخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا ، وذلك غير مستقبل أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب ، والوعد لا يتعين كونه كذبا .

قال ( وثانيهما أن إخلاف الوعد لا حرج فيه ) قلت بل فيه الحرج بمقتضى ظواهر الشرع إلا حيث يتعذر الوفاء [ ص: 22 ] قال ( ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ، ولما ذكره مقرونا بالكذب ) قلت لم يقصد الوعد الذي يفي فيه على التعيين ، ومن أين له العلم بذلك ، وإنما قصد الوعد على الإطلاق ، وسأل عنه لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارا أو اختيارا قائم ، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم عنه الجناح لاحتمال الوفاء ثم إنه إن وفى فلا جناح ، وإن لم يف مضطرا فكذلك ، وإن لم يف مختارا فالظواهر المتظاهرة قاضية بالحرج ، والله أعلم . قال ( ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن في ذلك ) .

قلت ما قاله غير صحيح ، ومن أين يعلم أنه لا يفعله ، وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به من أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل ، وإذا تعذر علمه بذلك تعين أن يكون سؤاله لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء فسوغ له صلى الله عليه وسلم ذلك لأن عدم الوفاء لا يتعين أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية ليس بمعصية .

قال ( وفي أبي داود قال صلى الله عليه وسلم { إذا وعد أحدكم أخاه ، ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه } إلى قوله عكس الأدلة الأول ) قلت تحمل هذه على أنه لم يف مضطرا جمعا بين الأدلة مع بعد تأويل تلك الأدلة ، وقرب تأويل هذه قال ( واعلم أنا إذا فسرنا الكذب بالخبر الذي لا يطابق لزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة ) قلت ما قاله في ذلك صحيح .

قال ( مع أن ظاهر الحديث يأباه ، وكذلك عدم التأثيم ) قلت يلزم تأويل ذلك قال ( فمن الفقهاء من قال الكذب يختص بالماضي والحاضر ، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل فلا يدخله الكذب ، وسيأتي الجواب عن الآية ، ونحوها ) قلت قولهم ذلك دعوى يكذبها دخول عدم المطابقة في الوعد وفي كل مستقبل سواه [ ص: 23 ] قال

( ومنهم من يقول لم يتعين عدم المطابقة في المستقبل بسبب أن المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم ، ولم يقع فيه بعد وجود ، ولا عدم فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة ، ولا بالمطابقة لأنه لم يقع بعدما يقتضي أحدهما ، وحيث قلنا الصدق القول المطابق ، والكذب القول الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل ، وذلك مختص بالحال ، والماضي ، وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة وعدمها )

قلت هؤلاء الذين قالوا هذا القول لم يخالفوا الأول في كون الكذب لا يدخل الوعد ، ولكنهم عينوا السبب في ذلك ، وبسطوه ، ومساق المؤلف لقول هؤلاء مفصولا عن قول أولئك يشعر باعتقاده أنه قول غير الأول ، وليس كذلك بل هو القول الأول بعينه قال ( ونحن متى حددنا بوصف نحو قولنا في الإنسان الحيوان الناطق أو نحوه إنما نريد الحياة ، والنطق بالفعل لا بالقوة ، وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا لأنه قابل للحياة والنطق ، وهذا التعليل يؤيد القول الأول ) قلت ما قاله هذا القائل في حد الإنسان مشعر بجهله بالحدود وقصد أربابها فإنهم لا يريدون حصول الوصف بالفعل فإن الطفل الرضيع عندهم إنسان مع أن النطق الذي هو العقل فيه مفقود فيه بالفعل ، وما قاله هذا القائل حيث قال وإلا لكان الجماد والنبات كله إنسانا لأنه قابل للحياة مشعر بجهله بمذهب أرباب الحدود ، وهم الفلاسفة في الحقائق ، وأنها مختلفة بصفاتها الذاتية فلا تقبل حقيقة منها صفة الأخرى فالحيوان لا يقبل أن يكون جمادا ، والجماد لا يقبل أن يكون حيوانا ، وما قاله من أن ( هذا التعليل يؤيد القول الأول يشعر باعتقاده أنهما قولان ، وليس الأمر كذلك ) قلت ، وإذا كان الأمر في الحدود [ ص: 24 ] لا يستلزم أن تكون الأوصاف فيها بالفعل بطل كل ما قاله هؤلاء من أن الوعد لا يدخله الكذب لأنه مستقبل ، وصح قول من يقول يدخله بمعنى أنه قابل لذلك ، وهذا هو القول الذي لا يصح سواه والله أعلم .

قال ( ومنهم من يقول الكل يدخله الكذب ، وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف فعلى هذا القول لا فرق بين الكذب والوعد ، والأول هو الذي ظهر لي لعدم تعين المطابقة وعدمها اللذين هما ضابطا الصدق والكذب ، وعلى ذلك يقع الفرق بينه وبين الكذب وبين الصدق فلا يوصف بواحد منهما ، ويختص بالماضي والحاضر ) قلت الصحيح نقيض مختاره ، وأنه لا فرق هنا ، والله أعلم .

قال ( فإن قلت يلزم ذلك في وعد الشرائع ووعيدها فلا يوصفان بواحد منهما ، وليس كذلك إلى قوله فانتفيا بالكلية وقت الإخبار ) قلت السؤال ، وارد لازم ، والجواب ساقط من حيث إن الحقائق لا تتغير بحسب الأحوال المخبر بها عنها ، ولا بحسب حال دون حال فالخبر القابل للصدق أو الكذب قابل لهما ، والخبر القابل لأحدهما دون الآخر كذلك ، والله تعالى أعلم .

قال ( واعلم أن الفقهاء اختلفوا في الوعد هل يجب الوفاء به شرعا أم لا إلى آخر الفرق ) قلت الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا [ ص: 25 ] فيتعين تأويل ما يناقض ذلك ، ويجمع بين الأدلة على خلاف الوجه الذي اختاره المؤلف ، والله تعالى أعلم ، وما قاله بعد هذا في الفروق التسعة صحيح أو نقل ، وترجيح .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 26 ] الفرق الرابع عشر والمائتان بين قاعدة الكذب ، وقاعدة الوعد ، وما يجب الوفاء به منه وما لا يجب )

اعلم أن الأدلة الشرعية على قسمين ( القسم الأول ) ما ظاهره الفرق بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد كحديث الموطإ { قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أأكذب لامرأتي فقال صلى الله عليه وسلم لا خير في الكذب ، فقال يا رسول الله أعدها وأقول لها فقال عليه الصلاة والسلام لا جناح عليك } ، وحديث أبي داود قال عليه الصلاة والسلام { إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه } ونحو ذلك من الأدلة التي تقتضي عدم الوفاء بالوعد وأن ذلك مباح ، والكذب ليس بمباح فلا يدخل الكذب في الوعد ( والقسم الثاني ) ما ظاهره عدم الفرق بينهما كقوله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } فإن الوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذبا محرما ، وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقا .

وقوله عليه الصلاة والسلام { من علامة المنافق ثلاث إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف } فذكره في سياق الذم دليل على التحريم ، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { وأي المؤمن واجب أي وعده } واجب الوفاء به فلما كان ظاهر القسم الأول معارضا لظاهر القسم الثاني حين صار بحيث لو أخذ به ، وقيل بالفرق بينهما ، وأن الوعد لا يدخله الكذب لزم مخالفة ظاهر القسم الثاني بل .

وقوله تعالى { وعدكم وعد الحق } وصدق الله وعده { الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } { هل وجدتم ما وعد ربكم حقا } إلى غير ذلك من النصوص الدالة على دخول الصدق في وعد الله تعالى ووعيده ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وكان ظاهر الثاني كذلك معارضا لظاهر الأول حتى صار بحيث لو أخذ به ، وقيل بعدم الفرق بينهما وأن الوعد [ ص: 44 ] يدخله الكذب لزم مخالفة ظاهر الأول ، وتعين الجمع بين هذه الظواهر المتعارضة ، اختلف الفقهاء فيما يقرب أن يؤخذ به منهما ، وما يؤول على قولين ( القول الأول ) تمسك بعضهم بظاهر القسم الأول ، وتأويل ظاهر القسم الثاني ، والفرق بين وعد الله تعالى ووعيده وبين وعد غيره تعالى ، قال الكذب يختص بالماضي والحاضر ، والوعد إنما يتعلق بالمستقبل .

وذلك لأن قولنا الصدق القول المطابق للواقع ، والكذب القول الذي ليس بمطابق للواقع ظاهر في وقوع وصف المطابقة ، وعدمها بالفعل ، وذلك مختص بالحال والماضي .

وأما المستقبل فليس فيه إلا قبول المطابقة ، وعدمها أما أولا فلأنا إذا حددنا بوصف بأن قلنا في الإنسان مثلا الحيوان الناطق إنما نريد الحياة والنطق بالفعل لا بالقوة ، وإلا كان الجماد والنبات كله إنسانا لأنه قابل للحياة والنطق .

وأما ثانيا فلأن حديث الموطإ يدل على أمرين ( أحدهما ) أن إخلاف الوعد لا يسمى كذبا لجعله قسيم الكذب ( وثانيهما ) أن إخلاف الوعد لا حرج فيه إذ لو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ، ولما ذكره مقرونا بالكذب ، ولكن قصده إصلاح حال امرأته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه ، وكذلك حديث أبي داود يقتضي أن عدم الوفاء بالوعد مباح عكس ظاهر الآية ونحوها فظهر الفرق بينهما أولا باختصاص الوعد بالمستقبل والكذب بالماضي والحال .

وثانيا بعدم التأثيم في الأول والتأثيم في الثاني كما هو ظاهر حديثي الموطإ وأبي داود السابقين ، والجواب عن ظاهر الآية ونحوها أما أولا فلأنه محمول إما على أن الموعد أدخل الموعود في سبب يلزمه بوعده كما لمالك وابن القاسم وسحنون أما مالك وابن القاسم فقالا إذا سألك أن تهب له دينارا فقلت نعم ثم بدا لك لا يلزمك ، ولو كان افتراق الغرماء عن وعد وإشهاد لأجله لزمك لإبطاله مغرما بالتأخير .

وأما سحنون فقال الذي يلزم من الوعد قوله اهدم دارك ، وأنا أسلفك ما يبنى به أو اخرج إلى الحج ، وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة ، وأنا أسلفك لأنك أدخلته بوعدك في ذلك أما مجرد الوعد فلا يلزمك الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق ا هـ .

وأما على أنه وعده مقرونا بذكر السبب كما لأصبغ حيث قال يقضى عليك به تزوج الموعود أم لا ، وكذا أسلفني لأشتري سلعة كذا لزمك تسبب في ذلك أم لا ، والذي لا يلزم من ذلك أن تعده من غير ذكر سبب فيقول لك أسلفني كذا فتقول نعم بذلك قضى عمر بن عبد العزيز [ ص: 45 ] رحمه الله ، وإن وعدت غريمك بتأخير الدين لزمك لأنه إسقاط لازم للحق سواء قلت له أؤخرك أو أخرتك ، وإذا أسلفته فعليك تأخيره مدة تصلح لذلك ا هـ .

وأما ثانيا فلأنه قد قيل إن الآية نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وما جاهدوا ، وفعلنا أنواعا من الخيرات ، وما فعلوه ، ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب ، وتسميع بطاعة ، وكلاهما محرم ومعصية اتفاقا ، وما ذكر من الإخلاف في صفة المنافق معناه أنه سجية له ، ومقتضى حاله الإخلاف ، ومثل هذه السجية يحسن الذم بها كما يقال سجية تقتضي البخل والمنع فمن كان صفته تحث على الخير مدح أو تحث على الشر ذم شرعا وعرفا ، والفرق بين وعد الله تعالى ووعيده وبين وعد غيره هو أن الله تعالى يخبر عن معلوم ، وكل ما تعلق به العلم تجب مطابقته بخلاف واحد من البشر فإنه إنما ألزم نفسه أن يفعل مع تجويز أن يقع ذلك منه ، وأن لا يقع فلا تكون المطابقة وعدمها معلومين ، ولا واقعين فانتفيا بالكلية وقت الإخبار .

واختار هذا القول الأصل فقال هذا هو الذي ظهر لي لأنه أقرب الطرق في الجمع بين هذه الظواهر المتعارضة ( والقول الثاني ) تمسك بعضهم بظاهر القسم الثاني ، وتأويل ظاهر القسم الأول قال يفسر الكذب بالخبر الذي لا يطاق الواقع ، وكل من المستقبل والماضي والحال يدخله وصف المطابقة وعدمها ، وليس الوقوع بالفعل شرطا فيدخل الكذب في الكل ، ويلزم دخول الكذب في الوعد بالضرورة ، وإنما سومح في الوعد تكثيرا للعدة بالمعروف فلا فرق بين الكذب ، والوعد قال العلامة ابن الشاط ما خلاصته ، وهذا القول هو الصحيح لوجوه : ( الوجه الأول ) أنا لا نسلم أن الحدود تستلزم أن تكون الأوصاف فيها بالفعل إذ لو استلزمت ذلك لخرج الطفل الرضيع عن الإنسان ضرورة أن النطق الذي هو العقل مفقود فيه بالفعل مع أنه عند أرباب الحدود ، وهم الفلاسفة إنسان ، ودعوى أنه إذا لم تستلزم ذلك كان الجماد والنبات كله إنسانا لأنه قابل للحياة والنطق جهل بمذهب أرباب الحدود ، وهم الفلاسفة في الحقائق ، وأنها مختلفة بصفاتها الذاتية فلا تقبل حقيقة منها صفة الأخرى فالحيوان لا يقبل أن يكون جمادا ، والجماد لا يقبل أن يكون حيوانا ، وإذا كان الأمر في الحدود لا يستلزم أن تكون الأوصاف فيها بالفعل بطل كل ما قاله هؤلاء من أن الوعد لا يدخله الكذب لأنه مستقبل ، وصح قول من يقول يدخله بمعنى أنه قابل لذلك ، وهذا هو القول الذي لا يصح سواه .

( الوجه الثاني ) أنه لا معنى لحديث الموطإ عندي إلا أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل [ ص: 46 ] له من أن يخبر زوجته بخبر يقتضي تغيظها به كأن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو من غير ذلك مما يكون فيه تغيظا بزوجته ، وسوغ له الوعد لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازما عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما ، ويتخرج ذلك في قسم العزم على الإخلاف على الرأي الصحيح المتصور عندي من أن العزم على المعصية لا مؤاخذة به إذ معظم دلائل الشريعة يقتضي المنع من الإخلاف ، وأن السائل له صلى الله عليه وسلم إنما قصد الوعد على الإطلاق ، وسأل عنه لأن الاحتمال في عدم الوفاء إضرارا أو اختيارا قائم ، ورفع صلى الله عليه وسلم عنه الجناح لاحتمال الوفاء ثم إنه إن وفى فلا جناح ، وإن لم يف مضطرا فكذلك ، وإن لم يف مختارا فالظواهر المتضافرة قاضية بالحرج فتبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل الوعد قسيما للكذب من حيث هو كذب ، وإنما جعله قسيما للخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا ، وذلك غير مستقبل أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب ، والوعد لا يتعين أنه كذب .

وما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل فمجرد دعوى لم تقم عليها حجة ، ولا يتعين أن المراد ما قاله كيف ، وأن ما قاله هو عين الوعد فإنه لا بد أن يكون ما يخبرها عن وقوعه في المستقبل متعلقا بها ، وإلا فلا حاجة لها فيما يتعلق بغيرها ، وما قيل إن السائل لم يقصد الوعد الذي نفى به بل قصد الوعد الذي لا نفي فيه على التعيين فمجرد دعوى كذلك إذ من أين يعلم أنه لا يفعله ، وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به من أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل ، وإذا تعذر علمه بذلك تعين أن يكون سواه لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء فسوغ له صلى الله عليه وسلم ذلك ، وأن عدم الوفاء لا يتعين أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية ليس بمعصية .

( الوجه الثالث ) أن في حمل حديث الموطإ على ما ذكر ، وحمل حديث أبي داود على أنه لم يف مضطرا قربا ، وفي حمل الآية ونحوها على ما قاله الشهاب بعدا أما أولا فلأن النصوص الدالة على دخول الصدق في وعده تعالى ووعيده ، وأن الأصل في الاستعمال الحقيقة وارد لازم على ما اختاره الشهاب ، والجواب عنه ساقط من حيث إن الحقائق لا تتغير بحسب الأحوال المخبر بها عنها ، ولا بحسب حال دون حال فالخبر القابل للصدق والكذب قابل لهما ، والخبر القابل [ ص: 47 ] لأحدهما دون الآخر كذلك .

وأما ثانيا فلأن الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا أي ، ولو لم يدخله في سبب يلزم بوعده أو لم يكن مقرونا بذكر السبب فيتعين تأويل ما يناقض ذلك ، ويجمع بين الأدلة على خلاف الوجه الذي اختاره الشهاب ، والله تعالى أعلم ا هـ .

قلت وفي قول العلامة ابن الشاط رحمه الله تعالى إذ لو استلزمت ذلك لخرج ذلك الطفل الرضيع عن حد الإنسان ضرورة إلخ نظر إذ يلزم من كون النطق هو العقل دخول الملائكة والجن في حد الإنسان لقولهم العقلاء ثلاثة الإنسان والملائكة والجن فيكون غير مانع ، والحق كما في شرح الزلفى وغيره أن المراد بالناطق في حد الإنسان ما هو مبدأ النطق ، والتكلم أو الإدراك المخصوص الذي هو الصورة النوعية الإنسانية ا هـ .

وهذه الصورة جوهر عند المشائين محمول على الإنسان في مرتبة لا يشترط شيء على ما حقق في محله ، ولا توجد في غير الإنسان كما في رسالتي السوانح الجازمة في التعاريف اللازمة ، وحينئذ فالصواب أن يقول إذ لو استلزمت ذلك لخرج ما لم يتحقق فيه النطق بمعنى الصورة النوعية بالفعل من أفراد الإنسان التي لم توجد مع أن من شرط عند أرباب علم المنطق ، وهم الحكماء لأنه إما جزء من الحكمة أو مقدمة لها كما قالوا أن يكون جامعا لجميع أفراد الماهية ما تحقق منها في الخارج ، وما لم يتحقق فمن تراهم بعد تعريفهم الكلي بما يمنع نفس تصور مفهومه من حيث إنه متصور وقوع الشركة فيه بحيث يصح حمله على كل فرد من أفراده يقولون سواء وجدت أفراده في الخارج ، وتناهت كالكوكب فإن أفراده السيارة والثوابت والسيارة سبعة مجموعة في قول بعضهم :

زحل شر مريخه من شمسه فتزاهرت لعطارد الأقمار

وعدد المرصود من الثوابت ذكر في الهيئة ، والسيارة كل واحد في تلك ، والثوابت كلها في الفلك الثامن كما حقق في علم الهيئة أم وجدت فيه ، ولم تتناه ككمال الله تعالى فإن أفراده موجودة قديمة لا تتناهى ، ولم يقم دليل على استحالة عدم التناهي في القديم أم لم توجد فيه أما مع امتناعها كالجمع بين الضدين .

وأما مع إمكانها كجبل من ياقوت وبحر من زئبق أم وجد منها فرد واحد فقط أما مع امتناع وجود غيره كالإله عند من يفسره بالمعبود بحق ، وأنه في الأصل صفة ثم غلبت عليها العلمية إذ الدليل الخارجي قطع عنه عرق الشريك لكنه عند العقل لم يمتنع صدقه على كثيرين ، وإلا لم يفتقر إلى دليل الوحدانية ، وأما [ ص: 48 ] مع إمكان وجود غيره كالشمس أي الكوكب النهاري المضيء منها واحد ، ويمكن أن يوجد منها شموس كثيرة كما في شرح شيخ الإسلام على أيسا غوجي المنطق وحاشية العطار عليه فتأمل بإنصاف ، ولا تأخذ الحق بالرجال بل الرجال بالحق كما هو أدب أهل الكمال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية