الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أوصى بماله المعين إلى رجل وبتقاضي الدين إلى آخر [ ص: 27 ] فهما وصيان في العين والدين جميعا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله كل واحد منهما وصي فيما سمي له خاصة ، وهو رواية عن أبي يوسف أيضا وجه قوله أن الموصي أحسن النظر لنفسه ههنا حين اختار التصرف في العين بمن يكون أمينا قادرا على التصرف فيه ، واختار لتقاضي الدين من يكون مهتديا إلى ذلك وفي الفصل الأول إنما قلنا تتعدى الوصاية من نوع إلى نوع ; لأن به تمام النظر للميت وتمام النظر ههنا في أن يختص كل واحد منهما بما سمي له فإنما يختار ليتقاضى إلى الناس وللتصرف في العين أمين الناس .

يوضحه أن هناك التصرف في بعض الأنواع للوصي منصوص عليه وفي البعض مسكوت عنه فيلحق بالمنصوص عليه وههنا التصرف لكل واحد منهما فيما سمي له منصوص عليه فلا يلحق غير المنصوص بالمنصوص ، وفي إثبات الشركة بينهما قصر ولاية كل واحد منهما عما سمي له ; لأنه لا ينفرد بالتصرف عند أبي حنيفة إذا ثبتت الشركة بينهما وأبو حنيفة يقول : الإيصاء إلى الغير مملوك للموصي شرعا ، والتقييد بنوع دون نوع غير مملوك له بدليل أنه لو قيد تصرفه بنوع ونهاه عن التصرف في سائر الأنواع ، ولكن لم يوص إلى غيره في ذلك كان له أن يتصرف في الكل عرفنا أن التقييد غير مملوك له فإنما يعتبر من كلامه ما يكون مملوكا له ، وذلك الإيصاء إليهما .

يوضحه أن في حق كل واحد منهما أحد النوعين منصوص عليه والآخر مسكوت عنه ، وقد بينا في الواحد إذا نص له على نوع تتعدى ولايته إلى سائر الأنواع فكذلك ههنا ، والدليل عليه أنه لو ذكر لكل واحد منهما نوعا خاصا ولم يتعرض لسائر الأنواع يثبت لهما ولاية التصرف في سائر الأنواع على سبيل الشركة فكذلك في النوع الذي سمي لكل واحد منهما ; لأن الولاية بطريق الوصية لا تقبل التمييز في الأنواع على أن يكون نائبه في بعضها على وجه الاختصاص ، وفي بعضها على وجه الشركة .

ولو قال فلان وصيي حتى يقدم فلان ، ثم الوصية إلى فلان فهو كما قال ; لأنه قد يحتاج إلى هذا لكون من يختاره لوصيته غائبا فيحتاج إلى نصب غيره لكي لا يضيع ماله إلى أن يقدم الغائب ، ثم إذا قدم فهو المختار للوصية ، وهذا ; لأن الوصية الخاصة إلى الوصي الأول قد انتهت بقدوم الثاني فهو كالمنتهي ببلوغ الولد ، وقد جعل الوصية للثاني معلقة بقدومه والوصية تقبل التعليق ، ثم بهذا الفصل يستدل محمد رحمه الله فيقول : التقييد تارة يكون من حيث الزمان وتارة يكون من حيث النوع ، ثم لما صح النوع له أن يقيد بصرف كل واحد منهما بزمان فكذلك يصح تقييده بالنوع بخلاف ما إذا سمى نوعا ، ولم يذكر سائر [ ص: 28 ] الأنواع ; لأنه لو سمى جزءا من الزمان كالوصية إليه شهرا أو سنة كان وصيا بعد ذلك الوقت إلى أن يدرك الولد ، ثم إذا نص لكل واحد منهما على جزء من الزمان كان الأمر على ما نص عليه ، ولكن قد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال : إذا قدم فلان فهما وصيان فعلى هذا يندفع السؤال ; لأن الوصية في حق الثاني تنضاف إلى ما بعد قدومه ، وفي حق الآخر مطلقة فيتصرف الأول إلى أن يقدم فلان ; لأن المضاف إلى وقت أو المعلق بالشرط لا يكون موجودا قبله فإذا وجد الشرط صار الثاني وصيا والأول وصي فيشتركان في التصرف .

ولو سلمناه فالفرق ما ذكرنا من حيث إن ههنا لا تثبت الشركة بينهما بحال ، فإن العقد في حق أحدهما مطلق وفي الآخر معلق فأما ههنا فتثبت الشركة بينهما فيما سوى النوعين اللذين نص عليهما ، والعقد في كل واحد منهما مطلق ; ولأن ثبوت الخلافة لهما واحد ، وهو عند موت الموصي ; فلهذا تثبت الوصية لكل واحد منهما في النوعين جميعا ، وكذلك لو أوصى ببعض ولده وميراثهم إلى رجل وببقية ولده وميراثهم إلى آخر فهما وصيان في جميع المال والولد استحسانا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ; لأن ولاية الموصي كانت ثابتة في الكل ، وهي مما تقبل النقل إلى الغير بالإيصاء فيقومان مقامه بعد موته في جميع ذلك ، وإذا اختلف الوصيان في المال عند من يكون فإنه يكون عند كل واحد منهما نصفه ، وإن اختلفا استودعاه رجلا ، وإن أحبا كان عندهما ; لأن حفظ المال إليهما ، ويتعذر اجتماعهما على حفظه آناء الليل والنهار ; لأنهما ينقطعان بذلك عن أشغالهما فيكون لكل واحد منهما أن يحفظ نصفه كالمودعين فيما يحتمل القسمة ، وإن أحبا استودعاه رجلا ; لأن الوصي لو كان واحدا كان له أن يودع المال من غيره ; لأنه قائم مقام الموصي فيما له من ولاية التصرف في المال والإيداع يدخل في هذا وقد يعجز الوصي عن الحفظ بنفسه لكثرة أشغاله فإذا جاز للوصي الواحد أن يودع المال جاز للوصيين ذلك ، وإن أحبا أن يكون عندهما جاز ; لأنهما لما جاز لهما أن يودعاه غيرهما فلأن يجوز لهما أن يودعاه أحدهما ، وهو أقرب إلى موافقة رأي الموصي كان أولى .

قال : وللوصي أن يتجر بنفسه بمال اليتيم ويدفعه مضاربة ويشارك به لهم ، وعلى قول ابن أبي ليلى رحمه الله ليس له أن يفعل شيئا من ذلك سوى التجارة في ماله بنفسه ; لأن الموصي جعله قائما مقامه في التصرف في المال ليكون المال محفوظا عنده ، وإنما يحصل هذا المقصود إذا كان هو الذي يتصرف بنفسه فلا يملك دفعه إلى غيره للتصرف كالوكيل .

ولكنا نقول : هو قائم مقام الموصي في ولايته في [ ص: 29 ] مال الولد ، وقد كان للموصي أن يفعل هذا كله في ماله فكذلك الوصي ، وهذا ; لأن المأمور به ما يكون أصلح لليتيم وأحسن قال الله تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } وقال تعالى { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } وقد يكون الأحسن في تفويض التصرف في ماله إلى غيره ببعض هذه الأسباب لعجزه عن مباشرة ذلك بنفسه إما لكثرة أشغاله أو لقلة هدايته وقال محمد : إذا لم يشهد الوصي على نفسه أنه يعمل بالمال مضاربة كان ما اشترى للورثة ، وهذا قولهم جميعا ; لأن الوصي في التصرف في مالهم قائم مقامهم .

ولو تصرفوا بأنفسهم كان الربح لهم ; لأنه نماء ملكهم فكذلك الوصي إذا تصرف ، ثم هو كتب أعمل فيه مضاربة يريد أن يتملك عليهم بعض الربح الحاصل ، وهو ليس بأمين في ذلك إلا أن يشهد قبل العمل أنه يعمل بالمال مضاربة ; لأنه بهذا الإشهاد لا يملك شيئا من مالهم عليهم بل يبقى بعض ما يحصل بعمله على ملكه ويجعل بعض ذلك لهم باعتبار مالهم فلا تتمكن التهمة في تصرفه ; فلهذا يجوز .

ولو أوصى بالثلث والورثة صغار فقاسم الوصي أهل الوصية فأعطاهم الثلث ، وأمسك الثلثين للورثة فهو جائز ; لأنه قائم مقام الورثة فإن الموصي أثبت له هذه الخلافة لحاجة ورثته إلى ذلك ; وليكون قائما مقامه في النظر لهم إلى أن يتمكنوا من النظر لأنفسهم فجازت مقاسمته مع أصحاب الوصية كما تجوز مقاسمة الورثة معهم أن لو كانوا بالغين ، فإن هلكت حصة الورثة في يد الوصي لم يرجعوا على أهل الوصية بشيء ; لأن الهلاك بعد تمام القسمة يكون على من وقع الهلاك في قسمه ، فإن كان الوارث كبيرا وصاحب الوصية صغيرا فأعطى الوصي الوارث الثلثين ، وأمسك الثلث لصاحب الوصية لم تصح هذه القسمة على الموصى له حتى إذا هلك الثلث في يد الوصي كان لصاحب الوصية أن يرجع على الوارث بثلث ما بقي في يده ، وهذا ; لأن الوصي لا ولاية له على الموصى له فلا يقوم مقامه في المقاسمة مع الورثة ، ثم الموصى له يتملك المال ابتداء بالعقد إلا أن يبقى له ما كان من الملك للميت في المقاسمة ولا ولاية للوصي في تميز الملك الثابت له بقبوله بعقد جديد فأما الوارث فيخلف الموروث في ملكه ويبقى له ما كان ثابتا للموروث ولهذا يرد بالعيب فيقوم الوصي مقامه في تمييز ذلك الملك باعتبار أنه خلف عن الميت ، وإذا ثبت أن القسمة لم تصح ههنا فما هلك من المال يهلك على الشركة وما يبقى يبقى على الشركة .

ولو كانت الورثة صغارا فقال الوصي : أنفقت عليهم كذا درهما ، فإن كان ذلك نفقة مثلهم في تلك المدة أو زيادة شيء قليل فهو مصدق فيه ، وعليه اليمين إن اتهموه ; لأنه أمين فالقول قوله في المحتمل مع اليمين [ ص: 30 ] ثم هو مسلط على الإنفاق عليهم بالمعروف وبالقليل من الزيادة لا يخرج إنفاقه من أن يكون بالمعروف ; لأن التحرز عن ذلك القدر غير ممكن والمسلط على الشيء إذا أخبر فيما سلط عليه بما لا يكذبه الظاهر فيه يجب قبول قوله كالمودع يدعي رد الوديعة .

وإن اتهموه فعليه اليمين لدفع التهمة ، وإذا كان في الورثة صغير وكبير فقاسم الوصي الكبير ، وأعطاه حصته وأمسك حصة الصغير فهو جائز ; لأنه قائم مقام الصغير في التصرف في ماله والمقاسمة مع الكبير من التصرف في ماله ; لأنه تميز به ملكه عن ملك غيره فيكون فعله كفعل الصغير بعد بلوغه .

وإذا كانت الورثة صغارا ، فقال الوصي : أنفقت على هذا كذا ، وعلى هذا كذا ، وكانت نفقة أحدهما أكثر فهو مصدق فيما يعرف من ذلك ; لأن النفقة للحاجة ، وربما تكون حاجة أحدهما أكثر لأن كان أكبر سنا ، أو لأن الناس يتفاوتون في الأكل فباختياره مع التفاوت لا يزول احتمال الصدق في كلامه ولا يخرج الظاهر من أن يكون شاهدا له فيقبل قوله في ذلك ، وإذا قال الوصي للوارثين وهما كبيران : قد أعطيتكما ألف درهم ، وهو الميراث ، فقال أحدهما : صدقت وقال الآخر : كذبت فإن الذي صدقه ضامن لمائتين وخمسين درهما يؤديها إلى شريكه بعد ما يحلف شريكه ما قبض الخمسمائة ، ولا ضمان على الوصي في ذلك ; لأنه أمين أخبر بأداء الأمانة ، وقد أقر الذي صدقه بقبض خمسمائة ، وأنكر الآخر أن يكون قبض وقول الوصي غير مقبول عليه في وصول الخمسمائة إليه ، وإن كان مقبولا في براءته عن الضمان وإنما بقي من التركة الخمسمائة التي أقر المصدق بقبضها فيلزمه أن يدفع نصفها إلى شريكه بعد أن يحلف شريكه ما قبض شيئا ; لأن المصدق يدعي الاختصاص بهذه الخمسمائة والوصي يشهد له بذلك ولا يثبت الاختصاص بقولهما وما زاد على هذه الخمسمائة من التركة كالبادي .

وإذا قسم الوصي التركة بين الورثة ، وهم صغار وعزل لكل إنسان نصيبه أو كانوا صغارا وكبارا وذلك منه بغير محضر من الكبار لم يجز وما هلك يهلك منهم جميعا ; لأن القسمة لتمييز الأنصباء والواحد لا ينفرد بذلك ، ثم الوصي لا ينفرد بالتصرف في مال اليتامى مع نفسه إلا لمنفعة ظاهرة تكون لهم وبالقسمة لا يحصل ذلك لكل واحد منهم فكانت قسمته باطلة وما هلك يهلك على الشركة وما بقي يبقى على الشركة ، وإذا قضى الوصي دينا على الميت بشهود فلا ضمان عليه ، وإن كان قضى ذلك بغير أمر القاضي ; لأنه قائم مقام الموصي في حوائجه وتفريغ الذمة بقضاء الدين من حوائجه وقد كان لصاحب الدين أن يأخذ دينه إذا ظفر بجنس حقه من التركة فللموصي أن [ ص: 31 ] يعطيه ذلك أيضا ، وإن لم يأمره به القاضي ، وإن لحق الميت دين بعد ذلك فهو ضامن لحصة الغريم الآخر ; لأنه خص بعض الغرماء بقضاء دينه ، وليس للوصي ذلك فإن حق الغرماء تعلق بالتركة ، وفي التخصيص إبطال حق بعضهم ولا ولاية للوصي على واحد منهم في إبطال حقه فيكون دفعه جناية في حق الغريم الآخر .

وإن كان أعطى الأول بأمر القاضي فلا ضمان عليه ; لأن دفعه بأمر القاضي كدفع القاضي ، ولكن الغريم يتبع القابض والقاضي بهذا لا يصير ضامنا شيئا فالمأمور من جهته بالدفع كذلك ، ولكن الغريم يتبع القابض بحصته ; لأنه ظهر أن المقبوض كان مشغولا بحقيهما ، ثم ليس في الدفع بأمر القاضي إبطال حق الآخر عن المدفوع ; لأنه إذا كان ذلك معلوما للقاضي فالقابض لا يتمكن من الجحود وأما إذا دفع بغير أمر القاضي فذلك منه إبطال لحق الآخر أو بغير نص كذلك ; لأن القابض ربما يجحد القبض فيكون القول قوله في ذلك فلا يتمكن الغريم الآخر من اتباعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية