الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ذكر مقتل شبيب في هذه السنة عند ابن الكلبي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان سبب ذلك أن الحجاج كتب إلى نائبه على البصرة ; الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل ، وهو زوج ابنة الحجاج ، يأمره أن يجهز جيشا أربعة آلاف يتطلبون شبيبا ، ويكونون تبعا لسفيان بن الأبرد ، ففعل فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا ، وصبر كل من الفريقين لصاحبه ، ثم عزم أصحاب الحجاج فحملوا على الخوارج ، ففروا بين أيديهم ذاهبين حتى اضطروهم إلى جسر هناك ، فوقف عنده شبيب في مائة من أصحابه ، وعجز سفيان بن الأبرد عن مقاومته ، ورده عن موقفه هذا بعدما تقاتلوا نهارا كاملا أشد قتال يكون ، ثم أمر سفيان بن الأبرد الرماة من أصحابه فرشقوهم بالنبل رشقا واحدا ، ففرت الخوارج ، ثم كرت على الرماة ، فقتلوا منهم نحوا من ثلاثين رجلا ، [ ص: 275 ] من أصحاب ابن الأبرد ، وجاء الليل بظلامه ، فكف الناس بعضهم عن بعض ، وبات كل من الفريقين مصرا على مناهضة الآخر ، فلما طلع الفجر عبر شبيب وأصحابه على الجسر ، فبينما شبيب على متن الجسر ، وهو على حصان له وبين يديه فرس أنثى ، فنزا فرسه وهو على الجسر ، ونزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء ، فقال : ليقضي الله أمرا كان مفعولا . ثم انغمر في الماء ، ثم ارتفع وهو يقول : ذلك تقدير العزيز العليم فغرق .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما تحققت الخوارج سقوطه في الماء كروا ، وانصرفوا ذاهبين مفرقين في البلاد ، وجاء أمير جيش الحجاج ، فاستخرج شبيبا من الماء ، وعليه درعه ، ثم أمر به فشق صدره ، فاستخرج قلبه ، فإذا هو مجتمع صلب كأنه صخرة ، وكانوا يضربون به الأرض فيثب قامة الإنسان ، وقيل : إنه كان معه رجال قد أبغضوه لما أصاب من عشائرهم ، فلما تخلف في الساقة اشتوروا وقالوا : نقطع الجسر به . ففعلوا ذلك ، فمالت السفن بالجسر ، ونفر فرسه ، فسقط في الماء فغرق ، فنادوا : غرق أمير المؤمنين . فعرف جيش الحجاج ذلك فجاءوا فاستخرجوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما نعي شبيب إلى أمه ، قالت : صدقتم ، إني كنت رأيت في المنام وأنا حامل به أنه قد خرج مني شهاب من نار ، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكانت أمه جارية اسمها جهيزة ، وكانت جميلة ، وكانت من أشجع [ ص: 276 ] النساء ، تقاتل مع ابنها في الحروب .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر القاضي ابن خلكان أنها قتلت في هذه الغزوة ، وكذلك قتلت زوجته غزالة . وكانت شديدة البأس خارجية ، وكان الحجاج مع هيبته يخاف منها أشد خوف ، حتى قال فيه بعض الشعراء :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هلا برزت إلى غزالة في الوغى     بل كان قلبك في جناحي طائر



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وقد كان شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت بن قيس بن شراحيل بن مرة بن ذهل بن شيبان الشيباني - يدعي الخلافة ، ويتسمى بأمير المؤمنين ، ولولا أن الله تعالى قهره بما قهره به من الغرق لنال الخلافة إن شاء الله ، ولما قدر عليه أحد ، وإنما قهره الله على يدي الحجاج ، لما أرسل إليه أمير المؤمنين عبد الملك بعساكر لقتاله ، فهرب غير مرة ، ولما ألقاه جواده على الجسر في نهر دجيل قال له رجل : أغرقا يا أمير المؤمنين ؟ [ ص: 277 ] قال : ذلك تقدير العزيز العليم قال : ثم أخرج ، وحمل إلى الحجاج ، فأمر فنزع قلبه من صدره ، فإذا هو مثل الحجر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان شبيب رجلا طويلا أشمط جعدا ، وكان مولده في يوم عيد النحر سنة ست وعشرين ، وقد أمسك رجل من أصحابه ، فحمل إلى عبد الملك بن مروان ، فقال له : ألست القائل :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإن يك منكم كان مروان وابنه     وعمرو ومنكم هاشم ، و حبيب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فمنا حصين ، و البطين وقعنب     ومنا أمير المؤمنين شبيب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال : إنما قلت : ومنا أمير المؤمنين شبيب . فأعجبه اعتذاره وأطلقه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كانت حروب كثيرة جدا بين المهلب بن أبي صفرة نائب الحجاج ، وبين الخوارج من الأزارقة ، وأميرهم قطري بن الفجاءة ، وكان أيضا من الفرسان الشجعان المذكورين المشهورين ، وقد تفرق عنه أصحابه ، ونفروا في هذه السنة ، وأما هو فشرد في الأرض لا يدرى أين ذهب ، وقد جرت بينهم مناوشات ومجاولات يطول بسطها واستقصاؤها ، وقد بالغ ابن جرير في ذكرها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وفي هذه السنة ثار بكير بن وشاح الذي كان نائب خراسان ، على [ ص: 278 ] نائبها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد - كما سيأتي - وذلك أن بكيرا استجاش عليه الناس ، وغدر به وقتله ، وقد جرت بينهما خطوب طويلة ، قد استقصاها أبو جعفر - رحمه الله - في تاريخه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كانت وفاة شبيب بن يزيد الخارجي - كما قدمنا - وقد كان من الشجاعة والفروسية على جانب كبير ، لم أر بعد الصحابة مثله ، ومثل الأشتر وابنه إبراهيم ، ومصعب بن الزبير وأخيه عبد الله ، وممن يناط بهؤلاء في الشجاعة ; مثل قطري بن الفجاءة من الأزارقة الخوارج ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية