الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( القسم الخامس ) ما اجتمع فيه أنه تناولته الولاية ، وصادف السبب والدليل والحجة ، وانتفت التهمة فيه غير أنه اختلف فيه من جهة الحجة هل هي حجة أم لا ، وفيه مسألتان

( المسألة الأولى ) القضاء بعلم الحاكم عندنا وعند ابن حنبل يمتنع ، وقال أبو حنيفة لا يحكم في الحدود بما شاهده من أسبابها إلا في القذف ، ولا في حقوق الآدميين فيما علمه قبل الولاية ومشهور مذهب الشافعي رضي الله عنه جواز الحكم في الجميع ، واتفق الجميع على جواز حكمه بعلمه في التجريح والتعديل لنا وجوه :

( الأول ) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع } الحديث فدل ذلك على أن القضاء يكون بحسب المسموع لا بحسب المعلوم .

( الثاني ) قوله صلى الله عليه وسلم { شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك } فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم ، وهو المطلوب

( الثالث ) روى أبو داود أن { النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش ثم قال أفأخطب الناس فأعلمهم برضاكم قالوا نعم فخطب فأعلم فقالوا ما رضينا فأرادهم المهاجرون والأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ونزل فجلسوا إليه فأرضاهم فقال أأخطب الناس فأعلمهم برضاكم قالوا نعم فخطب فأعلم الناس فقالوا رضينا } ، وهو نص في عدم [ ص: 45 ] الحكم بالعلم .

( الرابع ) جاء في الصحيحين في قصة هلال وشريك إن جاءت به كذا فهو لهلال يعني الزوج ، وإن جاءت به كذا فهو لشريك ابن سحماء يعني المقذوف فجاءت به على النعت المكروه فقال صلى الله عليه وسلم { لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها } فدل ذلك على أنه لا يقضي في الحدود بعلمه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا ، وقد وقع ما قال فيكون العلم حاصلا له ، ومع ذلك ما رجم ، وعلل بعدم البينة .

( الخامس ) قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } فأمر بجلدهم عند عدم البينة ، وإن علم صدقهم .

( السادس ) أن الحاكم غير معصوم فيتهم بالقضاء بعلمه فلعل المحكوم له ولي أو المحكوم عليه صديق ، ولا نعلم نحن ذلك فحسمنا المادة صونا لمنصب القضاء عن التهم .

( السابع ) قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار اتفقوا على أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قاتل أنه كالقتل عمدا لا يرث منه شيئا للتهمة في الميراث فنقيس عليه بقية الصور بجامع التهمة ، احتجوا بوجوه

( أحدها ) ما في مسلم أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على أبي سفيان بالنفقة بعلمه فقال لهند خذي لك ، ولولدك ما يكفيك بالمعروف } ، ولم يكلفها البينة

( وثانيها ) ما رواه صاحب الاستذكار أن رجلا من بني مخزوم ادعى على أبي سفيان عند عمر رضي الله عنه أنه ظلمه حدا في موضع فقال عمر رضي الله عنه إني لأعلم الناس بذلك فقال عمر انهض إلى الموضع فنظر عمر رضي الله عنه إلى الموضع فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ها هنا فضعه ها هنا فقال والله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال لا أفعل فعلاه عمر بالدرة ، وقال خذه لا أم لك وضعه هنا فإنك ما علمت قديم الظلم فأخذه فوضعه حيث قال فاستقبل عمر رضي الله عنه القبلة فقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه ، وأذللته لي بالإسلام فاستقبل القبلة أبو سفيان فقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي ما ذللت لعمر

( وثالثها ) قوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط } وقد علم القسط فيقوم به

( ورابعها ) أنه إذا جاز أن يحكم بالظن الناشئ عن قول البينة فالعلم أولى ، ومن العجب جعل الظن خيرا من العلم .

( وخامسها ) أن التهمة قد تدخل عليه من قبل البينة فيقبل قول من لا يقبل

( سادسها ) أن العمل واجب بما نقلته الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 46 ] فما سمعه المكلف أولى أن يعمل به ، ويحكم به بطريق الأولى لأن الفتيا تثبت شرعا عاما إلى يوم القيامة ، والقضاء في فرد لا يتعدى لغيره فخطره أقل .

( وسابعها ) أنه لو لم يحكم بعلمه لفسق في صور منها أن يعلم ولادة امرأة على فراش رجل فيشهد أنها مملوكته فإن قبل البينة مكنه من وطئها ، وهي ابنته ، وهو فسق ، وإلا حكم بعلمه ، وهو المطلوب ، ومنها أن يعلم قتل زيد لعمرو فتشهد البينة بأن القاتل غيره فإن قتله قتل البريء ، وهو فسق ، وإلا حكم بعلمه ، وهو المطلوب ، ومنها لو سمعه يطلق ثلاثا فأنكر فشهدت البينة بواحدة إن قبل البينة مكن من الحرام ، وإلا حكم بعلمه

( وثامنها ) { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا فجحده البائع فقال عليه السلام من يشهد لي فقال خزيمة يا رسول الله أنا أشهد لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تشهد ، ولا حضرت فقال خزيمة يا رسول الله تخبرنا عن خبر السماء فنصدقك أفلا نصدقك في هذا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الشهادتين } فهذا ، وإن استدل به المالكية على عدم القضاء بالعلم فهو يدل لنا من جهة حكمه عليه السلام لنفسه فيجوز أن يحكم لغيره بعلمه لأنه أبعد في التهمة من القضاء لنفسه بالإجماع

( وتاسعها ) القياس على التجريح والتعديل ، والجواب عن الأول أن قصة هند فتيا لا حكم لأنه الغالب من تصرفاته عليه السلام لأنه مبلغ عن الله تعالى ، والتبليغ فتيا لا حكم والتصرف بغيرها قليل فيحمل على الغالب ، ولأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ، ولا خلاف أنه لا يقضى على حاضر من غير أن يعرف ، وعن الثاني أنه من باب إزالة المنكر الذي يحسن من آحاد الناس لا من باب القضاء فلم قلتم إنه من باب القضاء ، ويؤيده أنها واقعة غير مترددة بين الأمرين فتكون مجملة فلا يستدل بها ، وعن الثالث القول بالموجب فلم قلتم إن الحكم بالعلم من القسط بل هو عندنا محرم ، وعن الرابع أن العلم أفضل من الظن إلا أن استلزامه للتهمة وفساد منصب القضاء أوجب مرجوحيته لأن الظن في القضاء يخرق الأبهة ، ويمنع من نفوذ المصالح ، وعن الخامس أن التهمة مع مشاركة الغير أضعف بخلاف ما يستقل به ، وقد تقدم أن التهم كلها ليست معتبرة بل بعضها ، وعن السادس أن الرواية والسماع والرؤية استوى الجميع لعدم المعارض الذي تقدم ذكره في العلم بخلاف الحكم ، وعن السابع أن تلك الصور لم يحكم فيها بعلمه بل ترك [ ص: 47 ] الحكم ، وتركه عند العجز عنه ليس فسقا ، وترك الحكم ليس بحكم ، وعن الثامن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم لنفسه ، وليس في الحديث أنه أخذ الفرس قهرا من الأعرابي فقد اختلف هل حكم أم لا ، وهل جعل شهادة خزيمة بشهادتين حقيقة أو مبالغة فما تعين ما ذكرتموه ، وقد ذكر الخطابي أنه عليه السلام إنما سمي خزيمة ذا الشهادتين مبالغة لا حقيقة ، وعن التاسع أنه يحكم فيه بالعلم نفيا للتسلسل لأنه يحتاج إلى بينة تشهد بالجرح أو التعديل ، وتحتاج البينة بينة أخرى إلا أن يقبل بعلمه بخلاف صورة النزاع مع أن القاضي قال في المعونة قد قيل هذا ليس حكما ، وإلا يتمكن غيره من نقضه بل لغيره ترك شهادته وتفسيقه ، وإذا لم يكن حكما لا يقاس عليه

( المسألة الثانية ) وهي مرتبة على الأولى قال الشيخ أبو الحسن اللخمي إذا حكم بما كان عنده من العلم قبل الولاية أو بعدها في غير مجلس الحكومة أو فيه فللقاضي الثاني نقضه فإن أقر الخصم بعد جلوسهما للحكومة ثم أنكر فقال مالك وابن القاسم لا يحكم به .

وقال سحنون وابن الماجشون يحكم به فلو جحد أحدهما ثم أقر في موضع يقبل ما رجع إليه من حجة أو غيرها بعد الجحود عند مالك ، وله ذلك عند ابن الماجشون وسحنون قال اللخمي ، والأول أحسن ، ولا أرى أن يباح هذا اليوم لأحد من القضاة ، واختلف إذا حكم فقال محمد أرى أن ينقض حكمه هو نفسه ما كان قاضيا لم يعزل فأما غيره من القضاة فلا أحب له نقضه قال ومعنى قوله ينقضه هو إذا تبين له خلاف القول الأول من رأيه ، وقيل لا ينقضه لأنه ينتقل من رأي إلى رأي فإن كان ليس من أهل الاجتهاد لم يكن حكمه الأول شيئا ، وينظر إلى من يقلده فإن كان ممن يرى الحكم بمثل الأول لم ينقضه إلا أن يتبين له أن مثل ذلك يؤدي مع فساد حال القضاء اليوم إلى القضاء بالباطل لأن كلهم حينئذ يدعي العدالة فينقضه لما في ذلك من الذريعة فهذا ضرب من الاجتهاد قلت فقد صرح بأن القضاء بالعلم ينقض .

وإن كان مدركا مختلفا فيه فإن كان المدرك في النقض كونه مدركا مختلفا فيه فالذي ينقض به لا يعتقده فالحكم وقع عنده بغير مدرك ، والحكم بغير مدرك ينقض فينقضه لذلك فيلزم على هذا نقض الحكم إذا وقع بالشاهد واليمين عند من لا يعتقده ، وقد نص على نقضه أبو حنيفة رضي الله عنه .

وقال هو بدعة أول من قضى به معاوية رضي الله عنه وليس [ ص: 48 ] الأمر كما قال بل أكثر العلماء على القضاء به ، وكذلك بشهادة امرأتين فإن الشافعي لا يجيز الحكم إلا بأربع نسوة ، والحكم الواقع بشهادة الصبيان عند الشافعي ، وغيره فإنها مدرك ضعيف مختلف فيه فيتطرق النقض لجميع هذه الأحكام لأن الحكم عند المخالف بغير مدرك ، وإن كان المستند في نقض القضاء بالعلم ليس كونه مدركا مختلفا فيه ، وأنا لا نعتقده مدركا بل مستندا لنفي التهمة كما ننقضه إذا حكم لنفسه فلا يشاركه في النقض غيره من المدارك المختلف فيها من هذا الوجه مع أني قد ترجح عندي فيما ، وضعته في كتاب الأحكام في الفرق بين الفتاوى ، والأحكام أن القضاء بالمدرك المختلف فيه يرفع الخلاف فيه ، ويعينه لأن الخلاف في ذلك المدرك موطن اجتهاد فيتعين أحد الطرفين بالحكم فيه كما يتعين أحد الطرفين بالاجتهاد في المسألة نفسها المختلف فيها فهذه الأقسام الخمسة هي ضابط ما ينتقض من قضاء القاضي ، وما خرج عن هذه الخمسة لا ينقض ، وهو ما اجتمع فيه تناول الولاية له ، والدليل ، والسبب ، والحجة ، وانتفت فيه التهمة ، ووقع على الأوضاع الشرعية كان مجمعا عليه أو مختلفا فيه

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

( القسم الخامس ) ما اجتمع فيه أنه تناولته الولاية ، وصادف السبب والدليل والحجة وانتفت التهمة فيه غير أنه اختلف فيه من جهة الحجة هل هي حجة أم لا ، وفيه مسألتان

( المسألة الأولى ) اتفق جميع الأئمة على جواز حكم الحاكم بعلمه في التجريح والتعديل ، واختلفوا في منعه فيما عداهما مطلقا ، وهو مذهبنا ، ومذهب ابن حنبل ، وجوازه في ذلك مطلقا ، وهو مشهور مذهب الشافعي رضي الله عنه .

وقال أبو حنيفة لا يحكم في الحدود بما شاهده من أسبابها إلا في القذف ، ولا في حقوق الآدميين فيما علمه قبل الولاية ، لنا سبعة وجوه : ( الأول ) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع } الحديث فدل ذلك على أن القضاء يكون بحسب المسموع لا بحسب المعلوم ( الثاني ) قوله صلى الله عليه وسلم { شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك } فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم ، وهو المطلوب .

( الثالث ) ما رواه أبو داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم { بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش ثم قال أفأخطب فأعلم الناس برضاكم ؟ قالوا نعم فخطب فأعلم فقالوا ما رضينا فأرادهم المهاجرون والأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ، ونزل فجلسوا إليه فأرضاهم فقال أأخطب الناس فأعلمهم برضاكم قالوا نعم فخطب فأعلم الناس فقالوا رضينا } ، وهو نص في عدم الحكم بالعلم .

( الرابع ) ما جاء في الصحيحين في قصة هلال وشريك من قوله صلى الله عليه وسلم { إن جاءت به كذا فهو لهلال يعني الزوج ، وإن جاءت به كذا فهو لشريك ابن سحماء يعني المقذوف فجاءت به على النعت المكروه فقال صلى الله عليه وسلم لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها } فدل ذلك على أنه لا يقضي في الحدود بعلمه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا .

وقد وقع ما قال فيكون العلم حاصلا له ، ومع ذلك ما رجم ، وعلل بعدم البينة ( الخامس ) قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } فأمر بجلدهم عند عدم البينة ، وإن علم صدقهم .

( السادس ) أن الحاكم غير معصوم فيتهم بالقضاء بعلمه فلعل المحكوم له ولي أو المحكوم عليه صديق ، ولا نعلم نحن ذلك فحسمنا المادة صونا لمنصب القضاء عن المتهم .

( السابع ) أن أبا عمر بن عبد البر [ ص: 85 ] قال في الاستذكار اتفقوا على أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قاتل أنه كالقاتل عمدا لا يرث منه شيئا للتهمة ، واحتجوا بتسعة وجوه :

( أحدها ) ما في مسلم أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على أبي سفيان بالنفقة بعلمه فقال لهند خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف } ، ولم يكلفها البينة ، وجوابه أن قصة هند فتيا لا حكم لأنه الغالب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم لأنه مبلغ عن الله تعالى ، والتبليغ فتيا لا حكم ، والتصرف بغيرها قليل فيحمل على الغالب ، ولأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ، ولا خلاف أنه لا يقضى على حاضر من غير أن يعرف .

( وثانيها ) ما رواه الاستذكار أن رجلا من بني مخزوم ادعى على أبي سفيان عند عمر رضي الله عنه أنه ظلمه حدا في موضع فقال عمر رضي الله عنه إني لأعلم الناس بذلك فقال عمر انهض إلى الموضع فنظر عمر رضي الله عنه إلى الموضع فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ها هنا فضعه ها هنا فقال والله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال لا أفعل فعلاه عمر بالدرة ، وقال خذه لا أم لك وضعه هنا فإنك ما علمت قديم الظلم فأخذه فوضعه حيث قال ، واستقبل عمر رضي الله عنه القبلة فقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام فاستقبل القبلة أبو سفيان فقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي ما ذللت به لعمر ، وجوابه أنه من باب إزالة المنكر الذي يحسن من آحاد الناس لا من باب القضاء فلم قلتم إنه من باب القضاء على أنا لو سلمنا أنها واقعة مترددة بين الأمرين لكانت مجملة فلا يستدل بها .

( وثالثها ) قوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط } وقد علم القسط فيقوم به ، وجوابه القول بالموجب فلم قلتم إن الحكم بالعلم من القسط بل هو عندنا محرم .

( ورابعها ) أنه إذا جاز أن يحكم بالظن الناشئ عن قول البينة فالعلم أولى ، ومن العجب جعل الظن خيرا من العلم ، وجوابه أن العلم أفضل من الظن إلا أن استلزامه للتهمة ، وفساد منصب القضاء أوجب مرجوحيته لأن الظن في القضاء يخرق الأبهة ، ويمنع من نفوذ المصالح .

( وخامسها ) أن التهمة قد تدخل عليه من قبل البينة فيقبل من لا يقبل ، وجوابه أن التهمة مع مشاركة الغير أضعف بخلاف ما يستقل به ، وقد تقدم أن التهم كلها ليست معتبرة بل بعضها .

( وسادسها ) أن العمل واجب بما نقلته الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما سمعه المكلف أولى أن يعمل به ، ويحكم به بطريق الأولى لأن الفتيا تثبت شرعا عاما إلى يوم القيامة ، والقضاء في [ ص: 86 ] فرد لا يتعدى لغيره فخطره أقل ، وجوابه أن الرواية والسماع والرؤية استوى الجميع لعدم المعارض الذي تقدم ذكره في العلم بخلاف الحكم .

( وسابعها ) أنه لو لم يحكم بعلمه لفسق في صور :

( منها ) أن يعلم ولادة امرأة على فراش رجل فتشهد البينة أنها مملوكته فإن قبل البينة مكنه من وطئها ، وهي ابنته ، وهو فسق ، وإلا حكم بعلمه ، وهو المطلوب . ( ومنها ) أن يعلم قتل زيد لعمرو فتشهد البينة بأن القاتل غيره فإن قبلها ، وقتله قتل البريء ، وهو فسق ، وإلا حكم بعلمه ، وهو المطلوب .

( ومنها ) لو سمعه يطلق ثلاثا فأنكر فشهدت البينة بواحدة فإن قبل البينة مكن من الحرام ، وهو فسق ، وإلا حكم بعلمه ، وهو المطلوب ، وجوابه أن تلك الصور لم يحكم فيها بعلمه بل ترك الحكم ، وتركه عند العجز عنه ليس فسقا ، وترك الحكم ليس بحكم ( وثامنها ) { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا فجحده البائع فقال عليه السلام من يشهد لي فقال خزيمة يا رسول الله أنا أشهد لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تشهد ولا حضرت فقال خزيمة يا رسول الله تخبرنا عن خبر السماء فنصدقك أفلا نصدقك في هذا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الشهادتين } فهذا وإن استدل به المالكية على عدم القضاء بالعلم فهو يدل لنا من جهة حكمه عليه السلام لنفسه فيجوز أن يحكم لغيره بعلمه لأنه أبعد في التهمة من القضاء لنفسه بالإجماع ، وجوابه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكم لنفسه ، وليس في الحديث أنه أخذ الفرس قهرا من الأعرابي فقد اختلف هل حكم أم لا ، وهل جعل شهادة خزيمة بشهادتين حقيقة أو مبالغة فما تعين ما ذكرتموه .

وقد ذكر الخطابي أنه عليه السلام إنما سمى خزيمة ذا الشهادتين مبالغة لا حقيقة .

( وتاسعها ) القياس على التجريح والتعديل ، وجوابه أنه قياس مع الفارق لأنه في التجريح أو التعديل يحكم بعلمه نفيا للتسلسل الحاصل إذا لم يحكم به لأنه يحتاج إلى بينة تشهد بالجرح أو التعديل ، وتحتاج البينة بينة أخرى ، وهكذا بخلاف صورة النزاع على أن القاضي قال في المعونة قد قيل هذا ليس حكما ، وإلا لم يتمكن غيره من نقضه بل لغيره ترك شهادته ، وتفسيقه ، وإذا لم يكن حكما لا يقاس عليه

( المسألة الثانية ) وهي مرتبة على الأولى قال الشيخ أبو الحسن اللخمي : إذا حكم بما كان عنده من العلم قبل الولاية أو بعدها في غير مجلس الحكومة أو فيه فللقاضي الثاني نقضه فإن أقر الخصم بعد جلوسهما للحكومة ثم أنكر فقال مالك وابن القاسم لا يحكم به .

وقال سحنون وابن الماجشون [ ص: 87 ] يحكم به فلو جحد أحدهما ثم أقر في موضع يقبل ما رجع إليه من حجة أو غيرها بعد الجحود عند مالك ، وله ذلك عند ابن الماجشون وسحنون قال اللخمي ، والأول أحسن ، ولا أرى أن يباح هذا اليوم لأحد من القضاة ، واختلف إذا حكم فقال محمد أرى أن ينقض حكمه هو نفسه ما كان قاضيا لم يعزل فأما غيره من القضاة فلا أحب له نقضه قال ، ومعنى قوله ينقضه هو إذا تبين له خلاف القول الأول من رأيه ، وقيل لا ينقضه لأنه ينتقل من رأي إلى رأي فإن كان ليس من أهل الاجتهاد لم يكن حكمه الأول شيئا ، وينظر إلى من يقلده فإن كان ممن يرى الحكم بمثل الأول لم ينقضه إلا أن يتبين له أن مثل ذلك يؤدي مع فساد حال القضاة اليوم إلى القضاء بالباطل لأن كلهم حينئذ يدعي العدالة فينقضه لما في ذلك من الذريعة فهذا ضرب من الاجتهاد ا هـ .

قال الأصل فقد صرح بأن القضاء بالعلم ينقض ، وإن كان مدركا مختلفا فيه فإن كان المدرك في النقض كونه مدركا مختلفا فيه فالذي ينقض به لا يعتقده فالحكم وقع عنده بغير مدرك ، والحكم بغير مدرك ينقض فنقضه لذلك فيلزم على هذا نقض الحكم إذا وقع بالشاهد واليمين عند من لا يعتقده .

وقد نص على نقضه أبو حنيفة رضي الله عنه ، وقال هو بدعة أول من قضى به معاوية رضي الله عنه ، وليس الأمر كما قال بل أكثر العلماء على القضاء به ، وكذلك شهادة امرأتين فإن الشافعي لا يجيز الحكم إلا بأربع نسوة والحكم الواقع بشهادة الصبيان عند الشافعي ، وغيره فإنها مدرك ضعيف مختلف فيه فيتطرق النقض لجميع هذه الأحكام لأن الحكم عند المخالف بغير مدرك ، وإن كان المستند في نقض القضاء بالعلم ليس كونه مدركا مختلفا فيه ، وأنا لا نعتقده مدركا بل مستندا لنفي التهمة كما ينقضه إذا حكم لنفسه فلا يشاركه في النقض جميع غيره من المدارك المختلف فيها من هذا الوجه مع أني قد ترجح عندي فيما وضعته في كتاب الأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام أن القضاء بالمدرك المختلف فيه يرفع الخلاف فيه ، ويعينه لأن الخلاف في ذلك المدرك موطن اجتهاد فيتعين أحد الطرفين بالحكم فيه كما يتعين أحد الطرفين بالاجتهاد في المسألة نفسها المختلف فيها ا هـ .

كلام الأصل بلفظه وسلمه ، وسائر ما قاله في هذا الفرق أبو القاسم بن الشاط ، ويوضحه قول التسولي على العاصمية إن حكم في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية فحكمه إنشاء رفع للخلاف فإذا قضى المالكي مثلا بلزوم الطلاق في التي علق طلاقها على نكاحها فقضاؤه إنشاء نص خاص وارد من قبله سبحانه وتعالى في خصوص هذه المرأة المعينة فليس للشافعي أن يفتي فيها [ ص: 88 ] بعدم لزوم الطلاق استنادا لدليله العام الشامل لهذه الصورة ولغيرها لأن حكم الحاكم جعله الله تعالى نصا خالصا واردا من قبله رفعا للخصومات ، وقطعا للمشاجرة ، والقاعدة الأصولية إذا تعارض خاص وعام قدم الخاص نعم للشافعي أن يفتي ويحكم في غيرها بمقتضى دليله كذا لو حكم الشافعي في الصورة المذكورة باستمرار الزوجية بينهما خرجت عن دليل المالكي ، ولزمه أن يفتي فيها بلزوم النكاح ودوامه ، وفي غيرها بلزوم الطلاق ، وهكذا حكمه في مواطن الخلاف كان داخل المذهب أو خارجه ، وهو معنى قول خليل ، ورفع الخلاف إلخ قلت وهذا في المجتهد أو المقلد الذي معه في مذهب إمامه من النظر ما يرجح به أحد الدليلين على الآخر .

وأما غيرهما فمحجر عليه الحكم بغير المشهور أو الراجح أو ما به العمل فحكمه بذلك إخبار وتنفيذ محض نعم إذا تساوى القولان في الترجيح فحكمه إنشاء رفع للخلاف ، وخرج باجتهادية حكم حكمه في مواضع الإجماع فإنه إخبار محض لا إنشاء فيه لتعيين الحكم بذلك وثبوته ، ويقيد التقارب إلخ المدرك الضعيف كالشفعة للجار واستسعاء المعتق بعضه فالحكم بسقوطهما إخبار محض ، والحكم بثبوتهما ينقض لضعف المدرك عند القائل به ، ويقيد المصلحة الدنيوية العبادات ، وتحريم السباع ، وطهارة الأواني والمياه ، ونحو ذلك مما اختلف فيه أهل الاجتهاد لا للدنيا بل للآخرة فهذه تدخلها الفتوى فقط إذ ليس للحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة بخلاف المنازعة في الأملاك والأوقاف والرهون ونحوها مما اختلفت فيها المصلحة الدنيوية ، وكذا أخذه للزكاة في مواطن الخلاف فهو حكم من جهة أنه تنازع بين الفقراء والأغنياء لا إن أخبر عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة ففتوى فقط ا هـ . المراد بتوضيح ما هو عين ما يأتي للأصل في الفرق بين الفتوى والحكم ، ويأتي فيه ما لأبي القاسم بن الشاط من البحث فترقب .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( فائدتان الأولى ) القول بالموجب بفتح الجيم ما يقتضيه الدليل ، وبكسرها الدليل ، وهو عند الأصوليين تسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع بأن يظهر عدم استلزامه الدليل لمحل النزاع وشاهده أي الدال على اعتباره قوله تعالى { ولله العزة ولرسوله } في جواب { ليخرجن الأعز منها الأذل } المحكي عن المنافقين أي صحيح ذلك لكن هم الأذل والله ورسوله الأعز ، وقد أخرجاهم فقد سلم موجب الدليل ومقتضاه مع بقاء النزاع في الأعز من هو ، والأذل من هو ، وليس هو تلقي المخاطب بغير ما يترقب فقط الذي اصطلح عليه أرباب المعاني كما في جمع الجوامع وشرح المحلي وعطاره ، وكذا قوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط } [ ص: 89 ] مسلم مقتضاه ، وهو وجوب القيام بالقسط أي العدل مع بقاء النزاع في كون الحكم بالعلم منه أم لا ، وهو الذي نقوله لأنه محرم عندنا فتنبه قال العطار على محلى جمع الجوامع ، وجعل الأصوليون القول بالموجب من القوادح لأنه لا ينافي تسليمه ليس المراد تسليم الدليل على مدعي المستدل بل تسليم صحته على خلافه فهو قادح في العلة ا هـ .

بتوضيح ( الثانية ) في شرح التسولي على العاصمية مثل التجريح والتعديل في جواز الحكم بعلمه تأديب من أساء عليه ، وضرب خصم له إلخ فما يستند فيه لعلمه جنس تحته أنواع ا هـ فافهم ، والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية