الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله ( ( ونحوها ) ) أي نحو الرحمة من محبته تعالى ورضاه وغضبه ونحو ذلك قال تعالى " يحبهم ويحبونه - وألقيت عليك محبة مني - إن الله يحب المحسنين - و : يحب المتقين - و : يحب الصابرين - و : يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا " .

قال شيخ الإسلام : ومن الناس من نفى أن تكون له صفة محبة أو رضا أو غضب غير الإرادة ، قال علماء الخلف المحبة ميل القلب إلى ما يلائم الطبع والله [ ص: 222 ] منزه عن ذلك ، وحينئذ فمحبة الله تعالى للعبد إرادة اللطف به ، والإحسان إليه ، ومحبة العبد لله هي محبة طاعته في أوامره ونواهيه ، والاعتناء بتحصيل مراضيه ، فمعنى يحب الله أي يحب طاعته وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه ، وهذا مذهب جمهور المتكلمين .

قال الإمام العلامة المحقق الأصولي الطوفي الحنبلي - رحمه الله تعالى - ذهب طوائف من المتكلمين والفقهاء إلى أن الله تعالى لا يحب ، وإنما محبته محبة طاعته وعبادته . وقالوا أيضا : هو لا يحب عباده المؤمنين ، وإنما محبته إرادته الإحسان إليهم .

قال : والذي دل عليه الكتاب والسنة ، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ، وجميع مشايخ الطريق أن الله تعالى يحب ويحب لذاته ، وأما حب ثوابه فدرجة نازلة .

وهذا كلام شيخ الإسلام ؛ فإنه قال : للناس في هذا الأصل العظيم ثلاثة أقوال ( أحدها ) : أن الله تعالى يحب ويحب ، كما قال الله تعالى : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) فهو المستحق أن يكون له كمال المحبة دون ما سواه ، وهو سبحانه يحب ما أمر به ، ويحب عباده المؤمنين .

قال شيخ الإسلام : وهذا قول سلف الأمة وأئمتها ، وقول أئمة شيوخ المعرفة .

( والقول الثاني ) : أنه يستحق أن يحب لكنه لا يحب إلا بمعنى أن يريد ، وهذا قول كثير من المتكلمين ومن وافقهم من الصوفية .

( والثالث ) : أنه لا يحب ولا يحب ، وإنما محبة العباد له إراداتهم طاعته ، وهذا قول الجهمية ومن وافقتهم من متأخري أهل الكلام كالرازي .

فيقال لمن نفى رحمة الله ومحبته وغضبه ورضاه ونحوها وأثبت له الإرادة : لم نفيت تلك وأثبت له الإرادة ؟ فإن قيل : لأن إثبات هذه الصفات تشبيه لأن الرحمة رقة تلحق المخلوق ، والغضب غليان الدم لإرادة الانتقام ، ونحو ذلك ، والرب منزه عن مثل صفات المخلوقين ، قيل له : وكذلك يقول لك منازعك في الإرادة أن الإرادة المعروفة ميل الإنسان إلى ما ينفعه ، ودفع ، ما يضره ، والله تعالى منزه عن الاحتياج إلى عباده ، وهم لا يبلغون ضره ولا نفعه ، بل هو الغني عن خلقه كلهم

فإن قيل الإرادة التي نثبتها لله تعالى ليست مثل إرادة المخلوقين ، كما أنا قد اتفقنا ، وسائر المسلمين على أنه حي عليم قدير ، وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين ، قال لك أهل الإثبات : وكذلك المحبة والرحمة ونحوهما التي نثبتها لله تعالى ليست مثل رحمة المخلوق [ ص: 223 ] ومحبته . فإن قلت : لا أعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا ، قال لك النفاة : ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا ، ومعلوم عند كل عاقل أن إرادتنا ومحبتنا ورحمتنا بالنسبة إلينا ، وإرادته ومحبته ورحمته تعالى بالنسبة إليه ، فلا يجوز التفريق بين المتماثلين فيثبت له إحدى الصفتين وينفي الأخرى ، وليس في العقل ولا في السمع ما يوجب التفريق .

قال شيخ الإسلام في التدمرية : القول في بعض الصفات كالقول في بعض ، فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله تعالى حي بحياة ، عليم بعلم ، قدير بقدرة ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، متكلم بكلام ، مريد بإرادة ، ويجعل ذلك كله حقيقة ، وينازع في محبته تعالى ورضاه وغضبه وكراهته ، فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة ، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات ، قيل له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته ، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ، فإن قلت : إن إرادته مثل إرادة المخلوقين ، فكذلك محبته ورضاه وغضبه ، وهذا هو التمثيل ، وإن قلت : له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به ، قيل لك : وكذلك له محبة تليق به ، وله تعالى رضا وغضب يليق به ، وللمخلوق رضا وغضب يليق به ، فإن قال : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، قيل له : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ، فإن قلت : هذه إرادة المخلوق ، قيل لك : وهذا غضب المخلوق .

وكذلك يلزم بالقول في علمه وسمعه وبصره وقدرته ونحو ذلك ، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته ، فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل ؛ لأن الفعل دل على القدرة ، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم ، وهذه الصفات مستلزمة للحياة ، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك ، قال له سائر أهل الإثبات لك جوابان :

( أحدهما ) : أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه ، وليس لك أن تنفيه من غير دليل ، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت ، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ، ولا سمعي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل [ ص: 224 ] السالم عن المعارض المقاوم

( الثاني ) : أن يقال : يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات ، فيقال : نفع العباد بالإحسان إليهم ، وما يوجد في المخلوقات من المنافع للمحتاجين ، وكشف الضر عن المضرورين ، وأنواع الرزق والهدى والمسرات ، دليل على رحمة الخالق ، كدلالة التخصيص على الإرادة والمشيئة ، والقرآن يثبت دلائل الربوبية بهذه الطريقة ، تارة يدلهم بالآيات المخلوقة على وجود الخالق ، ويثبت علمه وقدرته وحياته ، وتارة يدلهم بالنعم والآلاء على وجود بره وإحسانه المستلزم رحمته ، وهذا كثير في القرآن الكريم ، وإن لم يكن مثل الأول أو أكثر منه لم يكن أقل منه بكثير ، وإكرام الطائعين يدل على محبته ، وعقاب الكفار يدل على بغضهم كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه ، والغايات الموجودة في مفعولاته ومأموراته وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على الإرادة وأولى لقوة العلة الغائية ، ولهذا كان ما في القرآن الكريم من بيان مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة .

قال شيخ الإسلام - طيب الله مضجعه - : ومما يوضح ذلك أن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر به الله ورسوله من صفاته تعالى ليس موقوفا على أن يقوم دليل عقلي على تلك الصفة بعينها ، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به ، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا ، ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم ( قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنا بالرسول ، ولا متلقيا عنه الأخبار بشأن الربوبية ، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به ؛ فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به بل يتأوله أو يفوضه ، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به ، فلا فرق عند من سلك هذه السبيل [ ص: 225 ] بين وجود الرسول وإخباره ، وبين عدم الرسول وعدم إخباره ، وكان ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده .

قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية : وقد صرح بهذا أئمة هذا الطريق .

قال : ثم أهل الطريق الثبوتية فيهم من يحيل على القياس ، وفيهم من يحيل على الكشف ، وكل من الطريقين فيها من الاضطراب والاختلاف ما لا ينضبط ، وليست واحدة منهما تحصل المقصود بدون الطريق النبوية ، والطريق النبوية بها يحصل الإيمان النافع في الآخرة ، ثم إن حصل قياس أو كشف يوافق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حسنا مع أن القرآن قد نبه على الطريق الاعتبارية التي بها يستدل على مثل ما في القرآن كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق فأخبر أنه يري عباده من الآيات المشهودة التي هي أدلة عقلية ما يبين أن القرآن حق ، وليس لقائل أن يقول إنما خصت هذه الصفات بالذكر لأن السمع موقوف عليها دون غيرها ، فإن الأمر ليس كذلك لأن التصديق بالسمعيات ليس موقوفا على إثبات السمع والبصر ونحو ذلك .

ثم قال شيخ الإسلام - قدس الله روحه - : والمقصود هنا التنبيه على أن ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات ليس مقصورا على ما ذكره هؤلاء مع إثباتهم بعض صفاته بالعقل وبعضها بالسمع ، فإن من عرف حقائق أقوال الناس بطريقهم التي دعتهم إلى تلك الأقوال حصل له العلم والرحمة فعلم الحق ، ورحم الخلق ، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وهذه خاصة أهل السنة المتبعين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم يتبعون الحق ، ويرحمون من خالفهم باجتهاده حيث عذره الله ورسوله ، وأما أهل البدع فيبتدعون بدعة باطلة ويكفرون من خالفهم فيها . انتهى . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية