الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : رحمه الله ) وإذا شهد شاهدان على رجل بقتل عمدا وقبلت شهادتهما ، ثم رجعا فعليهما الدية في مالهما في قول علمائنا رحمهم الله وقال الشافعي عليهما القصاص ، وكذلك إذا رجع أحدهما واحتج الشافعي بحديث علي رضي الله عنه حيث قال لشاهدي السرقة حين رجعا لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما ، والمعنى فيه أنهما باشرا قتلا بغير حق ; لأنهما ألجآ القاضي إلى القضاء بالقتل فإنه يخاف العقوبة إذا امتنع من ذلك ، والملجئ مباشر حكما في وجوب القود عليه كالمكره ، والدليل عليه أن الدية تجب مغلظة في مالهما عندكم وذلك لا يكون إلا بمباشرة القتل .

وحجتنا في ذلك أن الشاهد سبب للقتل ، والسبب لا يوجب القصاص كحفر البئر وهذا ; لأنه يعتبر في القصاص المساواة ولا مساواة بين السبب والمباشرة وبيان الوصف أن المباشر هو الوالي ، وهو طائع مختار في هذه المباشرة فعرفنا أن الشاهد غير مباشر حقيقة ولا حكما ولا معنى لما ذكره من الإلجاء ; لأن القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة وبه لا يصير ملجأ إلى ذلك ، بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا نسلم أن الدية تجب مغلظة على الشهود فكل واحد يقيم الطاعة خوفا من العقوبة على تركها ولا يصير به مكرها ، ثم إن وجد هذا الإلجاء في حق القاضي فبمجرد القضاء ما صار المقضي عليه مقتولا ، وإنما صار مقتولا باستيفاء الولي ، وهو غير ملجأ إلى ذلك ، بل هو مندوب إلى العفو شرعا ولا يسلم أن الدية تجب مغلظة على الشهود ، بل إنما تجب مخففة بمنزلة الواجب على حافر البئر إلا أنها تجب على الحافر البئر في ماله ; لأنها وجبت بإقراره وإقراره غير مقبول في حق العاقلة ولم يثبت لهم أن الشاهد مباشر حكما .

فقد بينا أن المباشر حقيقة هاهنا لا يلزمه القصاص ، وهو الولي لشبهة قضاء القاضي ، فالمباشر حكما أولى أن لا يلزمه شيء من ذلك ، وإنما قال علي رضي الله عنه ذلك على سبيل التهديد ، فقد صح من مذهب علي أن اليدين لا يقطعان واحدة ، وقد تقدم بيان هذا في كتاب الرجوع ، فإذا لم يجب القود عليهما كان عليهما الدية إن رجعا ، وإن رجع أحدهما فعليه نصف الدية ; لأن [ ص: 182 ] كل واحد منهما سبب لإتلاف نصف النفس ، فإن رجع الولي معهما ، أو جاء المشهود بقتله حيا فلولي المقتول الخيار بين أن يضمن الشاهدين الدية وبين أن يضمن القاتل ; لأن القاتل متلف للنفس حقيقة ، والشهود متلفون له حكما ، والإتلاف الحكمي في حكم الضمان كالإتلاف الحقيقي فكان له أن يضمن أيهما شاء ، فإن ضمن الولي الدية لم يرجع على الشاهدين بشيء ; لأنه يضمن بفعل باشره لنفسه باختياره .

وإن ضمن الشاهدين لم يرجعا على الولي أيضا في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد ثبت لهما حق الرجوع على الولي بما ضمنا ; لأنهما ضمنا بشهادتهما وقد كانا عاملين فيه للولي فيرجعان عليه بما يلحقهما من الضمان كما لو شهدا بالقتل الخطأ أوبالمال فقضى القاضي واستوفى المشهود له ، ثم رجعوا جميعا وضمن المشهود عليه الشاهدين كان لهما أن يرجعا على المشهود له ولا يقال هناك قد ملك المقبوض بالضمان وهاهنا لم يملكاه ; لأن القصاص لا يملك بالضمان ، والمشهود به هو القصاص وهذا ; لأنهما ، وإن لم يملكا بعد ، فقد قام مقام من ضمنهما في الرجوع على القاتل بمنزلة من غصب مدبرا فغصبه آخر منه ، ثم ضمن المالك الغاصب الأول فإنه يرجع بالضمان على الثاني ، وإن لم يملك المدبر بالضمان ، ولكنه قام مقام من ضمنه وهذا ; لأن القصاص مما يملك في الجملة وله بدل متقوم محتمل التمليك فيكون السبب معتبرا على أن يعمل في بدله عندنا لتعذر أعماله في الأصل كاليمين على أن تعمل في بلده حتى يرجع بالضمان من أن يكون متعقدا في إيجاب الكفارة التي هي خلف عن البر لما كان الأصل ، وهو البر متوهم الوجود في الجملة وعلى هذا غاصب المدبر فإن المدبر متقوم مملوك في الجملة فينعقد السبب للغاصب الأول فيه على أن يعمل في بدله حتى يرجع بالضمان على الغاصب الثاني .

وكذا شهود الكتابة إذا رجعوا وضمنهم الولي القيمة كان لهم أن يرجعوا على المكاتب ببدل الكتابة ولم يملكوا رقبة المكاتب ، ولكن لما كان المكاتب مملوكا رقبة للمكاتب انعقد السبب في حقهم على أن يكون عاملا في بدل ، وهو بدل الكتابة بذلك ، وإن لم يملكوا رقبة المكاتب فهذا مثله وأبو حنيفة يقول الشهود ضمنوا لإتلافهم المشهود عليه حكما ، والمتلف لا يرجع بما يضمن بسببه على غيره كالولي وهذا ; لأنهم لم يكونوا متلفين ما كانوا ضامنين مع مباشرة الإتلاف ; لأن مجرد السبب يسقط اعتباره في مقابلة المباشرة .

( ألا ترى ) أنه لو وقع إنسان في بئر حفرها غيره في الطريق كان الضمان على الحافر ولو دفعه غيره حتى وقع فيه كان الضمان على الدافع دون الحافر وهاهنا لما ضمن الشهود عرفنا أنهم جناة متلفون للنفس حكما ، وإن كان تمام ذلك الإتلاف عند استيفاء [ ص: 183 ] الولي فإن استيفاء الولي بمنزلة شرط بقدر جنايته ، ومن ضمن بجنايته على النفس لا يرجع على غيره فأما في الخطأ فإنما رجع ; لأنه ملك المقبوض ، وهو الدية ، وقد أتلفه المستوفي بصرفه إلى حاجته وهذا سبب آخر موجب للضمان عليه للشاهد ، وكذلك الشاهد بالمال قولهما إن في هذا الموضع يجعل هو قائما مقام من ضمنه قلنا هذا أن لو بقي حق من ضمنه قبل الولي واختياره فتضمين الشاهد إبراء منه للولي فكيف يقوم الشاهد مقامه في الرجوع عليه وقوله بأنه ينعقد السبب موجبا للملك له أن يعمل في بدله قلنا هذا أن لو كنا في الأصل نتوهم الملك في الضمان ، وليس في القصاص توهم الملك بالضمان بحال فلا ينعقد السبب باعتبار الحلف كيمين الغموس ، ثم لو كان القصاص ملكا لهما لم يضمنه المتلف عليهما كما إذا شهدا على الولي بالعفو وقتل من عليه القصاص إنسان آخر فليس له القصاص قبل الضمان وانعقاد السبب لا يكون أقوى من ثبوت الملك حقيقة ، وإذا كان المتلف للقصاص لا يضمنه للمالك ، فكيف يضمنه لمن انعقد له السبب ؟ وبه فارق مسألة غصب المدبر والكتابة ، فإن هناك لو كان مالكا حقيقة لم يضمنه المتلف عليه فكذلك إذا جعل كالمالك حكما باعتبار انعقاد السبب فيكون له أن يرجع بالبدل لذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية