الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  570 71 - حدثنا عمران بن ميسرة قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا حصين، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس فقال: يا بلال أين ما قلت؟ قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط قال: إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء، يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة، فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (قم يا بلال فأذن).

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله): وهم خمسة: الأول: عمران بن ميسرة ضد الميمنة تقدم في باب رفع العلم. الثاني: محمد بن فضيل بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة تقدم في باب صوم رمضان إيمانا. الثالث: حصين بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالنون ابن عبد الرحمن السلمي الكوفي مات سنة ست وثلاثين ومائة. الرابع: عبد الله بن أبي قتادة تقدم في باب الاستنجاء باليمين. الخامس: أبوه أبو قتادة واسمه الحارث بن ربعي بن بلدمة الأنصاري رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده): فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه العنعنة في موضعين، وفيه القول في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته ما بين كوفي ومدني وفيه رواية الابن [ ص: 88 ] عن الأب وفيه أن شيخ البخاري من أفراده.

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره): أخرجه البخاري أيضا في التوحيد، عن محمد بن سلام، عن هشيم، وأخرجه أبو داود في الصلاة، عن عمرو بن عون، عن خالد بن عبد الله وعن هناد، عن عبثر بن القاسم، وأخرجه النسائي فيه، عن هناد به وفي التفسير عن محمد بن كامل المروزي، عن هشيم به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه). قوله: ( سرنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة ) من سار يسير سيرا، وفيه رواية عمران بن حصين : إنا أسرينا، ويروى: سرينا، وقد مضى الكلام فيه في باب الصعيد الطيب وضوء المسلم مستوفى، وذكرنا أيضا أن هذه الليلة في أي سفرة كانت. قوله: ( لو عرست بنا يا رسول الله ) جواب لو محذوف تقديره: لكان أسهل علينا أو هو للتمني، وعرست بتشديد الراء من التعريس، وهو نزول القوم في السفر آخر الليل للاستراحة. قوله: ( أنا أوقظكم ) وفي رواية مسلم في حديث أبي هريرة ( فمن يوقظنا فقال بلال: أنا ). قوله: ( فاضطجعوا ) يجوز أن يكون بصيغة الماضي ويجوز أن يكون بصيغة الأمر. قوله: ( إلى راحلته ) أي: إلى مركبه. قوله: (فغلبته عيناه) أي: عينا بلال وفي رواية السرخسي : فغلبت بغير ضمير. قوله: ( فنام ) أي: بلال . قوله: ( فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس ) أي: طرفها وحواجب الشمس نواحيها، وفي رواية مسلم: فكان أول من استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره. قوله: ( أين ما قلت )؟ يعني أين الوفاء بقولك: أنا أوقظكم. قوله: ( ما ألقيت ) على صيغة المجهول، وقوله: ( نومة ) مفعول نائب عن الفاعل. قوله: ( مثلها ) أي: مثل هذه النومة التي كانت في هذا الوقت ومثل لا يتعرف بالإضافة ولهذا وقع صفة للنكرة. قوله: ( إن الله قبض أرواحكم ) الأرواح جمع روح يذكر ويؤنث وهو جوهر لطيف نوراني يكدره الغذاء والأشياء الردية الدنية مدرك للجزئيات والكليات حاصل في البدن متصرف فيه غنى عن الاغتذاء، بريء عن التحلل والنماء؛ ولهذا يبقى بعد فناء البدن؛ إذ ليست له حاجة إلى البدن، ومثل هذا الجوهر لا يكون من عالم العنصر بل من عالم الملكوت، فمن شأنه أن لا يضره خلل البدن ويلتذ بما يلائمه ويتألم بما ينافيه، والدليل على ذلك قوله تعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: إذا وضع الميت على نعشه رفرف روحه فوق نعشه ويقول: يا أهلي ويا ولدي. (فإن قلت): كيف يفسر الروح وقد قال تعالى: قل الروح من أمر ربي (قلت): معناه من الإبداعات الكائنة بكن من غير مادة وتولد من أصل على أن السؤال كان عن قدمه وحدوثه وليس فيه ما ينافي جواز تفسيره، (فإن قلت): إذا قبض الروح يكون الشخص ميتا لكنه نائم لا ميت (قلت): المعنى من قبض الروح هنا قطع تعلقه عن ظاهر البدن فقط، والموت قطع تعلقه بالبدن ظاهرا وباطنا، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله قبض أرواحكم مثل قوله تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها قوله: ( حين شاء ) في الموضعين ليس لوقت واحد فإن نوم القوم لا يتفق غالبا في وقت واحد بل يتتابعون فيكون (حين) الأول: جزءا من أحيان متعددة. قوله: ( قم فأذن ) بتشديد الذال من التأذين، وفي رواية الكشميهني : (فآذن) بالمد، ومعناه أعلم الناس بالصلاة. قوله: ( فتوضأ ) أي النبي صلى الله عليه وسلم وزاد أبو نعيم في المستخرج: فتوضأ الناس. قوله: ( وابياضت ) على وزن افعالت من الابيضاض وهذه الصيغة تدل على المبالغة يقال: ابيض الشيء إذا صار ذا بياض ثم إذا أرادوا المبالغة فيه ينقلونه إلى باب الافعيلال، فيقولون: ابياض وكذلك احمر واحمار وقال بعضهم: وقيل: إنما يقال ذلك في كل لون بين لونين، فأما الخالص من البياض مثلا فإنما يقال له أبيض.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا القول صادر عمن ليس له ذوق من علم الصرف ولا اطلاع فيه. قوله: ( قام فصلى )، وفي رواية أبي داود : فصلى بالناس.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستنبط منه): وهو على وجوه: الأول: فيه خروج الإمام بنفسه في الغزوات .

                                                                                                                                                                                  الثاني: فيه جواز الالتماس من السادات فيما يتعلق بمصالحهم الدينية بل الدنيوية أيضا مما فيه الخير .

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن على الإمام أن يراعي المصالح الدينية .

                                                                                                                                                                                  الرابع: فيه جواز الاحتراز عما يحتمل فوات العبادة عن وقتها .

                                                                                                                                                                                  الخامس: فيه جواز التزام خادم بمراقبة ذلك.

                                                                                                                                                                                  السادس: فيه الأذان للفائتة ولأجله ترجم البخاري الباب واختلف العلماء فيه فقال أصحابنا: يؤذن للفائتة ويقيم، واحتجوا في ذلك بحديث عمران بن حصين رواه أبو داود وغيره وفيه: ثم أمر مؤذنا فأذن فصلى ركعتين قبل الفجر ثم أقام ثم صلى الفجر، وبه قال الشافعي في القديم وأحمد وأبو ثور وابن المنذر : وإن فاتته صلوات أذن للأولى وأقام وهو مخير في الباقي إن شاء أذن [ ص: 89 ] وأقام لكل صلاة من الفوائت، وإن شاء اقتصر على الإقامة لما روى الترمذي، عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم فاتته يوم الخندق أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك فمن أين التخيير؟ قلت: جاء في رواية قضاهن صلى الله عليه وسلم بأذان وإقامة، وفي رواية: بأذان وإقامة للأولى وإقامة لكل واحدة من البواقي، ولهذا الاختلاف خيرنا في ذلك، وفي التحفة وروي في غير رواية الأصول، عن محمد بن الحسن : إذا فاتته صلوات تقضى الأولى بأذان وإقامة، والباقي بالإقامة دون الأذان، وقال الشافعي في الجديد: يقيم لهن ولا يؤذن، وفي القديم: يؤذن للأولى ويقيم ويقتصر في البواقي على الإقامة، وقال النووي في شرح المهذب: يقيم لكل واحدة بلا خلاف ولا يؤذن لغير الأولى منهن، وفي الأولى ثلاثة أقوال في الأذان أصحها أنه يؤذن، ولا يعتبر بتصحيح الرافعي منع الأذان.

                                                                                                                                                                                  والأذان للأولى مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وقال ابن بطال : لم يذكر الأذان في الأولى عن مالك والشافعي، وقال الثوري والأوزاعي وإسحاق : لا يؤذن لفائتة.

                                                                                                                                                                                  السابع: فيه دليل على أن قضاء الفوائت بعذر ليس على الفور وهو الصحيح ولكن يستحب قضاؤها على الفور، وحكى البغوي وجها عن الشافعي أنه على الفور، وأما الفائتة بلا عذر فالأصح قضاؤها على الفور وقيل له التأخير كما في الأولى.

                                                                                                                                                                                  الثامن فيه: أن الفوائت لا تقضى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، واختلف أصحابنا في قدر الوقت الذي تباح فيه الصلاة بعد الطلوع، قال في الأصل: حتى ترتفع الشمس قدر رمح أو رمحين وقال أبو بكر محمد بن الفضل : ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس لا تباح فيه الصلاة فإن عجز عن النظر تباح.

                                                                                                                                                                                  التاسع: فيه دليل على جواز قضاء الصلاة الفائتة بالجماعة .

                                                                                                                                                                                  العاشر: احتج به المهلب على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح قال: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا بمراقبة وقت صلاة غيرها وفيه نظر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر: فيه دليل على قبول خبر الواحد واستدل به قوم على ذلك، وقال ابن بزيزة : وليس هو بقاطع فيه لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى قول بلال بمجرده بل بعد النظر إلى الفجر لو استيقظ مثلا.

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر: استدل به مالك في عدم قضاء سنة الفجر وقال أشهب : سئل مالك : هل ركع صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر حين نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس؟ قال: ما بلغني. وقال أشهب : بلغني أنه صلى الله عليه وسلم ركع، وقال علي بن زياد، وقال غير مالك : وهو أحب إلي أن يركع، وهو قول الكوفيين والثوري والشافعي وقد قال مالك : إن أحب أن يركعهما من فاتته بعد طلوع الشمس فعل، قلت: مذهب محمد بن الحسن إذا فاتته ركعتا الفجر يقضيهما إذا ارتفع النهار إلى وقت الزوال، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يقضيهما، هذا إذا فاتت وحدها وإذا فاتت مع الفرض يقضي اتفاقا.

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر: فيه أقوى دليل لنا على عدم جواز الصلاة عند طلوع الشمس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة حتى ابياضت الشمس ولورود النهي فيه أيضا.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية