الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  657 (قال أبو عبد الله : قال الحميدي : قوله: إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا، هو في مرضه القديم ثم صلى بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا، والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أبو عبد الله هو البخاري نفسه، والحميدي هو شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، واسمه عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد القرشي الأسدي المكي، ويكنى أبا بكر، وهو من أفراد البخاري، مات سنة تسع عشرة ومائتين، ويفهم من هذا الكلام أن ميل البخاري إلى ما قاله الحميدي، وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي، والثوري، وأبو ثور، وجمهور السلف أن القادر على القيام لا يصلي وراء القاعد إلا قائما، وقال المرغيناني : الفرض والنفل سواء، وقوله: ( إنما يؤخذ ) إلى آخره إشارة إلى أن الذي يجب به العمل هو ما استقر عليه آخر الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم صلاته قاعدا والناس وراءه قيام دل على أن ما كان قبله من ذلك مرفوع الحكم؛ فإن قلت: ابن حبان لم ير النسخ فإنه قال بعد أن روى حديث عائشة المذكور: وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلى قاعدا كان على المأمومين أن يصلوا قعودا، وأفتى به من الصحابة جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن فهد، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع فكان إجماعا، والإجماع عندنا إجماع الصحابة، وقد أفتى به أيضا من التابعين، وأول من أبطل ذلك من الأمة المغيرة بن مقسم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذه عنه أبو حنيفة، ثم عنه أصحابه، وأعلى حديث احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي عن الشعبي ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحد بعدي جالسا ، وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا، والمرسل عندنا وما لم يرو سيان؛ لأنا لو قبلنا إرسال تابعي وإن كان ثقة للزمنا قبول مثله عن أتباع التابعين، وإذ قبلنا لزمنا قبوله من أتباع التابعين، ويؤدي ذلك إلى أن نقبل من كل أحد إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا نقض الشريعة، والعجب أن أبا حنيفة يخرج عن جابر الجعفي ويكذبه، ثم لما اضطره الأمر جعل يحتج بحديثه، وذلك [ ص: 220 ] كما أخبرنا به الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان بالرقة، حدثنا أحمد بن أبي الحوراء، سمعت أبا يحيى الجمان، سمعت أبا حنيفة يقول: ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، ما أثبته بشيء من رأيي إلا جاءني فيه بحديث، قلت: أما إنكاره النسخ فليس له وجه على ما بيناه، وأما قوله: ( أفتى به من الصحابة جابر وغيره ) فقد قال الشافعي : إنهم لم يبلغهم النسخ، وعلم الخاصة يوجد عند بعض ويعزب عن بعض، انتهى. وكذا من أفتى به من التابعين لم يبلغهم خبر النسخ وأفتى بظاهر الخبر المنسوخ، وأما قوله: (والإجماع) إجماع الصحابة فغير مسلم فإن الأدلة غير فارقة بين أهل عصر، بل تتناول لأهل كل عصر كتناولها لأهل عصر الصحابة؛ إذ لو كان خطابا للموجودين وقت النزول فقط يلزم أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجودا وقت النزول؛ لأنه حينئذ لا يكون إجماعهم إجماع جميع المخاطبين وقت النزول، ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم أو ولد من الصحابة بعد النزول لكونهم خارجين عن الخطاب، وقد اتفقتم معنا على إجماع هؤلاء فلا يختص بالمخاطبين، والخطاب لا يختص بالموجودين كالخطاب بسائر التكاليف، وهذا الذي قاله ابن حبان هو من مذهب داود وأتباعه، وأما قوله: ( والمرسل عندنا وما لم يرو سيان ) إلى آخره، فغير مسلم أيضا لأن إرسال العدل من الأئمة تعديل له إذ لو كان غير عدل لوجب عليه التنبيه على جرحه والإخبار عن حاله، فالسكوت بعد الرواية عنه يكون تلبيسا أو تحميلا للناس على العمل بما ليس بحجة والعدل لا يتهم بمثل ذلك، فيكون إرساله توثيقا له لأنه يحتمل أنه كان مشهورا عنده، فروى عنه بناء على ظاهر حاله، وفوض تعريف حاله إلى السامع حيث ذكر اسمه، وقد استدل بعض أصحابنا لقبول المرسل باتفاق الصحابة فإنهم اتفقوا على قبول روايات ابن عباس مع أنه لم يسمع من النبي عليه الصلاة والسلام - إلا أربعة أحاديث لصغر سنه كما ذكره الغزالي أو بضعة عشر حديثا كما ذكره شمس الأئمة السرخسي، وقال ابن سيرين : ما كنا نسند الحديث إلى أن وقعت الفتنة، وقال بعضهم: رد المراسيل بدعة حادثة بعد المائتين، والشعبي والنخعي من أهل الكوفة، وأبو العالية والحسن من أهل البصرة، ومكحول من أهل الشام كانوا يرسلون، ولا يظن بهم إلا الصدق فدل على كون المرسل حجة، نعم وقع الاختلاف في مراسيل من دون القرن الثاني والثالث، فعند أبي الحسن الكوفي يقبل إرسال كل عدل في كل عصر، فإن العلة الموجبة لقبول المراسيل في القرون الثلاثة، وهي العدالة والضبط تشمل سائر القرون، فبهذا التقدير انتقض قوله: ( وفي هذا نقض للشريعة )، وأما قوله: (والعجب من أبي حنيفة ) إلى آخره، كلام فيه إساءة أدب وتشنيع بدون دليل جلي، فإن أبا حنيفة من أين احتج بحديث جابر الجعفي في كونه ناسخا ومن نقل هذا من الثقات عن أبي حنيفة حتى يكون متناقضا في قوله: (وفعله)، بل احتج أبو حنيفة في نسخ هذا الباب مثل ما احتج به غيره كالثوري، والشافعي، وأبي ثور، وجمهور السلف كما مر مستوفى.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية