الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  590 12 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: (لو يعلم الناس ما في النداء) وهو الأذان.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة عبد الله التنيسي ومالك بن أنس وسمي بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء آخر الحروف مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المدني قتله الحرورية بقديد سنة ثلاثين ومائة وأبو صالح ذكوان الزيات .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإخبار كذلك في موضع، وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع، وفيه أن رواته مدنيون ما خلا شيخ البخاري .

                                                                                                                                                                                  (ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الشهادات، عن إسماعيل وأخرجه مسلم في الصلاة، عن يحيى بن يحيى وأخرجه الترمذي فيه، عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى وأخرجه النسائي فيه، عن عتبة بن عبد الله وقتيبة فرقهما وعن الحارث بن مسكين، عن عبد الرحمن بن القاسم سبعتهم، عن مالك به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله: ( لو يعلم الناس ) قال الطيبي وضع المضارع موضع الماضي ليفيد استمرار العلم. قوله: ( ما في النداء ) أي الأذان وهي رواية بشر بن عمر، عن مالك عند السراج فإن قلت: ما الفرق بين النداء والأذان؟ قلت: لفظة الأذان والتأذين أخص من لفظ النداء لغة وشرعا، والفرق بين الأذان والتأذين أن التأذين يتناول جميع ما يصدر من المؤذن من قول وفعل وهيئة ونية، وأما الأذان فهو حقيقة تعقل بدون ذلك. قوله: ( والصف الأول ) زاد أبو الشيخ في رواية له [ ص: 125 ] من طريق الأعرج، عن أبي هريرة (من الخير والبركة) والتقدير لو يعلم الناس ما في الصف الأول، وقال الطيبي : أطلق مفعول يعلم وهو كلمة ما ولم يبين الفضيلة ما هي ليفيد ضربا من المبالغة، وأنه مما لا يدخل تحت الوصف. قوله: ( ثم لا يجدون ) هذه رواية المستملي والحموي وفي رواية غيرهما (لم يجدوا) وقال الكرماني : وفي بعض الروايات (لا يجدوا) ثم قال: جوز بعضهم حذف النون بدون الناصب والجازم قال ابن مالك : حذف نون الرفع في موضع الرفع لمجرد التخفيف ثابت في اللغة في الكلام الفصيح نظمه ونثره. قوله: ( إلا أن يستهموا عليه ) من الاستهام وهو الاقتراع يقال: استهموا فسهمهم فلان سهما إذا أقرعهم، وقال صاحب العين: القرعة مثال الظلمة الاقتراع، وقد اقترعوا وتقارعوا وقارعته فقرعته أي: أصابتني القرعة دونه، وأقرعت بينهم إذا أمرتهم أن يقترعوا وقارعت بينهم أيضا والأول أصوب ذكره ابن التياني في الموعب وفي التهذيب لأبي منصور، عن ابن الأعرابي القرع والسبق والندب الخطر الذي يستبق عليه، وقال النووي : معناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان وعظيم جزائه ثم لم يجدوا طريقا يحصلونه به لضيق الوقت أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد لاقترعوا في تحصيله، وقال الطيبي : المعنى لو علموا ما في النداء والصف الأول من الفضيلة ثم حاولوا الاستباق لوجب عليهم ذلك وأتى بثم المؤذنة بتراخي رتبة الاستباق من العلم وقدم ذكر الأذان دلالة على تهيؤ المقدمة الموصلة إلى المقصود الذي هو المثول بين يدي رب العزة قوله: ( عليه ) أي: على كل واحد من الأذان والصف الأول، وقد نازع ابن عبد البر والقرطبي في مرجع الضمير فقال ابن عبد البر : يرجع إلى الصف الأول لأنه أقرب المذكورين وقال القرطبي : يلزم منه أن يبقى النداء ضائعا لا فائدة له بل الضمير يعود على معنى الكلام المتقدم مثل قوله تعالى: ومن يفعل ذلك يلق أثاما أي: جميع ما ذكر قلت: الصواب مع القرطبي ويؤيده ما رواه عبد الرزاق، عن مالك بلفظ: (لاستهموا عليهما) فدل ذلك على صحة التقدير الذي قدرناه. قوله: ( ما في التهجير ) أي: التبكير إلى الصلوات قاله الهروي، وقال غيره: المراد التبكير بصلاة الظهر يعني الإتيان إلى صلاة الظهر في أول الوقت لأن التهجير مشتق من الهاجرة، وهي شدة الحر نصف النهار، وهو أول وقت الظهر قلت: الصواب مع الهروي لأن اللفظ مطلق وتخصيصه بالاشتقاق لا وجه له، ثم المراد من التبكير إلى الصلوات التهيؤ والاستعداد لها، ولا يلزم من ذلك إقامتها في أول أوقاتها، وكيف وقد أمر الشارع بالإبراد في الظهر والإسفار في الفجر وأيضا الهاجرة تطلق على وقت الظهر إلى أن يقرب العصر فإذا أبرد يصدق عليه أنه هجر على ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: ( لاستبقوا إليه ) أي إلى التهجير، وقال ابن أبي حمزة : المراد من الاستباق التبكير بأن يسبق غيره في الحضور إلى الصلاة قوله: ( ما في العتمة ) وهي صلاة العشاء يعني لو يعلمون ما في ثواب أدائها وأداء الصبح لأتوهما ولو حبوا أي ولو كانوا حابين من حبى الصبي إذا مشى على أربع قاله صاحب المجمل، ويقال: إذا مشى على يديه أو ركبتيه أو استه.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) فيه فضيلة الأذان وقد ذكرنا فيما مضى من ذلك، وفيه فضيلة الصف الأول لاستماع القرآن إذا جهر الإمام والتأمين عند فراغه من الفاتحة والتكبير عقيب تكبير الإمام، وأيضا يحتمل أن يحتاج الإمام إلى استخلاف عند الحدث فيكون هو خليفته فحصل له بذلك أجر عظيم أو يضبط صفة الصلاة، وينقلها ويعلمها الناس وروى مسلم ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ) وفي الأوسط للطبراني : ( استغفر عليه الصلاة والسلام للصف الأول ثلاث مرات وللثاني مرتين وللثالث مرة ).

                                                                                                                                                                                  وعن جابر بن سمرة من حديث مسلم ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصف الأول ) وعند ابن ماجه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ( لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله إلى النار ) وعن عبد الرحمن بن عوف ( إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ) وعند ابن حبان عن البراء بن عازب ( إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ) وقال القرطبي : اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر، والصحيح أنه الذي يلي الإمام فإن كان بين الإمام وبين الناس حائل كما أحدث الناس المقاصير فالصف الأول الذي على المقصورة وفي التوضيح: الصف الأول ما يلي الإمام ولو وقع فيه حائل خلافا لمالك وأبعد من قال إنه المبكر ولو جاء رجل ورأى الصف الأول مسدودا لا ينبغي له أن يزاحمهم وقد [ ص: 126 ] روي عن ابن عباس يرفعه ( من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذي مسلما أضعف الله له الأجر ) وفيه فضيلة التبكير إلى الصلاة، وفيه حث عظيم على حضور صلاتي العتمة والصبح والفضل الكثير في ذلك لما فيهما من المشقة على النفس من تنقيص أول النوم وآخره.

                                                                                                                                                                                  وفيه تسمية العشاء بالعتمة فإن قلت: قد ثبت النهي عنه قلت: هذه التسمية لبيان الجواز وأن النهي ليس للتحريم وأيضا استعمال العتمة هاهنا لمصلحة لأن العرب كانت تستعمل العشاء في المغرب فلو قال: ما في العشاء لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب فاستعمل العتمة التي لا يشكون فيها فقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما، وفيه أن الصف الثاني أفضل من الثالث، والثالث أفضل من الرابع وهلم جرا.

                                                                                                                                                                                  وفيه دلالة لمشروعية القرعة، وفيه ما استدل به بعضهم لمن قال بالاقتصار على مؤذن واحد وهذا ليس بظاهر لصحة استهام أكثر من واحد في مقابلة أكثر من واحد وزعم بعض من شرح الحديث المذكور أن المراد بالاستهام هاهنا الترامي بالسهام، وأنه أخرج مخرج المبالغة واستأنس لذلك بحديث: ( لتجالدوا عليه بالسيوف ) قلت: الذي قصده البخاري وذهب إليه هو الأوجه والأولى ولذلك استشهد بقضية سعد رضي الله تعالى عنه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية