الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
2873 - "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا؛ ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره ؛ وكثرة الخطا إلى المساجد؛ وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط؛ فذلكم الرباط؛ فذلكم الرباط"؛ مالك ؛ (حم م ت ن)؛ عن أبي هريرة ؛ (صح) .

التالي السابق


(ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا) ؛ من صحف الحفظة؛ ونحوها؛ كناية عن غفرانها؛ (ويرفع به الدرجات؟) ؛ أي: المنازل في الجنة؛ أو المراد رفع درجته في الدنيا بالذكر الجميل؛ وفي العقبى بالثواب الجزيل؛ (إسباغ الوضوء) ؛ أي: إتمامه وإكماله واستيعاب أعضائه بالغسل؛ (على المكاره) ؛ جمع "مكرهة"؛ بمعنى الكره والمشقة؛ يعني: إتمامه بإيصال الماء إلى مواضع الفرض؛ حال كراهة فعله ؛ لشدة برد؛ أو علة يتأذى معها بمس الماء؛ أي: من غير لحوق ضرر بالعلة؛ وكإعوازه؛ وتحمل مشقة طلبه؛ أو ابتياعه بثمن غال؛ ونحو ذلك؛ ذكره الزمخشري ؛ (وكثرة الخطا) ؛ جمع "خطوة"؛ بالضم؛ وهي موضع القدمين؛ وإذا فتحت؛ تكون للمرة؛ (إلى المساجد) ؛ وكثرتها أعم من كونها ببعد الدار؛ أو كثرة التكرار؛ قال العارف ابن عربي : وهذا رفع الدرجات؛ فإنه سلوك في صعود ومشي؛ قال ابن سيد الناس : وفيه أن بعد الدار عن المسجد أفضل ؛ فقد صرح به في قوله لبني سلمة - وقد أرادوا أن يتحولوا قريبا من المسجد -: " يا بني سلمة ؛ دياركم؛ تكتب آثاركم" ؛ ( وانتظار الصلاة بعد الصلاة ) ؛ سواء أدى الصلاة بجماعة؛ أو منفردا في مسجد؛ أو في بيته؛ وقيل: أراد به الاعتكاف؛ (فذلكم الرباط) ؛ أي: المرابطة؛ يعني: العمل المذكور هو المرابطة؛ لمنعه لاتباع الشهوات؛ فيكون جهادا أكبر؛ أو المراد أنه أفضل أنواع الرباط؛ كما يقال: "جهاد النفس هو الجهاد"؛ أي: أفضل؛ أو المراد أنه الرباط الممكن المتيسر؛ ذكر ذلك جمع؛ وأصله قول البيضاوي : "المرابطة": ملازمة العدو؛ مأخوذة من "الربط"؛ وهو الشد؛ والمعنى: هذه الأعمال هي المرابطة الحقيقية؛ لأنها تسد طرق الشيطان إلى النفس؛ وتقهر الهوى؛ وتمنعها عن قول الوساوس؛ واتباع الشهوات؛ فيغلب بها جنود الله حزب الشيطان؛ وذلك هو الجهاد الأكبر؛ إذ الحكمة في شرع الجهاد تكميل الناقصين؛ ومنعهم عن الفساد والإغراء؛ قال الطيبي : فيما ذكر معنى حديث: "رجعنا من الجهاد الأصغر؛ إلى الجهاد الأكبر" ؛ لإتيانه باسم الإشارة؛ الدال على بعد منزلة المشار إليه في مقام التعظيم؛ وإيقاع "الرباط"؛ المحلى بلام الجنس خبرا لاسم الإشارة؛ كما في قوله (تعالى): الم ذلك الكتاب ؛ إذ التعريف في الخبر للجنس؛ ولما أريد تقرير ذلك مزيد تقرير واهتمام بشأنه؛ كرره؛ فقال: (فذلكم الرباط؛ فذلكم الرباط) ؛ كرره اهتماما به؛ وتعظيما لشأنه؛ وتخصيصها بالثلاث لأن الأعمال المذكورة في الحديث ثلاث؛ وأتى باسم الإشارة إشارة إلى تعظيمه بالبعد؛ وقيل: أراد: ثوابه كثواب الرباط؛ وقال العارف ابن عربي : "الرباط": الملازمة؛ من "ربطت الشيء"؛ وبالانتظار ألزم نفسه؛ فربط الصلاة بالصلاة المنتظرة؛ بمراقبة دخول وقتها؛ ليؤديها فيه؛ وأي لزوم أعظم من هذا؟! فإنه يوم واحد مقسم على خمس صلوات؛ ما منها صلوات يؤديها فيفرغ من أدائها؛ إلا وقد ألزم نفسه مراقبة دخول وقت الأخرى؛ إلى وقت فراغ اليوم؛ وثاني يوم آخر؛ فلا يزال كذلك؛ فما ثم زمان إلا يكون فيه مراقبا لوقت أداء صلاة؛ فلذلك أكده بقوله ثلاثا؛ فانظر إلى علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمور؛ حيث أنزل كل عمل في الدنيا منزلة في الآخرة؛ وعين حكمه؛ وأعطاه حقه؛ فذكر وضوءا؛ ومشيا؛ وانتظارا؛ وذكر محوا؛ ورفع درجة؛ ورباطا؛ ثلاثا لثلاث؛ هذا يدلك على شهوده؛ ومواضع حكمه؛ ومن هنا وأمثاله قال عن نفسه إنه أوتي جوامع الكلم؛ قال في المطامح: وهذه الخصال هي التي اختصم فيها الملأ الأعلى؛ كما في خبر الترمذي : "أتاني ربي؛ في أحسن صورة؛ فوضع يده بين كتفي؛..." ؛ الحديث.

( مالك ؛ حم م ت ن؛ عن أبي هريرة ) ؛ ورواه عنه الشافعي أيضا.




الخدمات العلمية