الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2156 ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - أمر سليكا بما أمره به من ذلك فقطع خطبته إرادة منه أن يعلم الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة، ويجوز أيضا أن يكون بنى على خطبته، وكان ذلك قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم نسخ الكلام في الصلاة، فنسخ أيضا في الخطبة.

                                                وقد يجوز أن يكون ما أمره به من ذلك كما قال أهل المقالة الأولى ويكون سنة معمولا بها.

                                                فنظرنا هل روي شيء يخالف ذلك؟ فإذا بحر بن نصر قد حدثنا، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت معاوية بن صالح يحدث، عن أبي الزاهرية ، عن عبد الله بن بسر قال: "كنت جالسا إلى جنبه يوم الجمعة، فقال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له رسول الله - عليه السلام -: اجلس فقد آذيت وآنيت. قال أبو الزاهرية: وكنا نتحدث حتى يخرج الإمام".

                                                أفلا ترى أن رسول الله - عليه السلام - أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، فهذا بخلاف حديث سليك، وفي حديث أبي سعيد الخدري الذي قد رويناه في الفصل الأول ما يدل على أن ذلك كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن ينهى عنها، ألا تراه يقول: "فألقى الناس ثيابهم" وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب مكروه، وأن مسه الحصى والإمام يخطب مكروه، وأن قوله لصاحبه: أنصت والإمام يخطب مكروه، فدل ذلك على أن ما كان أمر به النبي - عليه السلام - سليكا والرجل الذي أمر بالصدقة عليه كان في حال الحكم فيها في ذلك بخلاف الحكم فيما بعد.

                                                [ ص: 28 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 28 ] ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه "أنه" أي أن الشأن "قد يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر سليكا الغطفاني بما أمره به" أي بالذي أمره به "من ذلك" أي من أن يصلي ركعتين خفيفتين.

                                                تقرير هذا الجواب: أن حديث سليك يحتمل ثلاث معان:

                                                الأول: يحتمل أن يكون أمره إياه بذلك بعد قطع خطبته لإرادة تعليمه الناس كيف يفعلون إذا دخلوا المسجد، ثم استأنف الخطبة بعد ذلك.

                                                الثاني: يحتمل أن يكون بنى على خطبته ولم يستأنفها والحال أن ذلك كان منه قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم لما نسخ في الصلاة نسخ أيضا في الخطبة ; لأنها شطر صلاة الجمعة وشرطها.

                                                الثالث: يحتمل أن يكون ما أمر به النبي - عليه السلام - سليكا من الصلاة بركعتين كما قال أهل المقالة الأولى، ويكون سنة معمولا بها.

                                                وإذا احتمل هذا الحديث هذه الاحتمالات نحتاج أن ننظر، هل ورد شيء يبين أن المراد أحد الاحتمالات المذكورة؟ وهل ورد شيء يخالف صريحا حديث سليك المذكور؟

                                                فنظرنا في ذلك فوجدنا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - المذكور عن قريب الذي احتج به أهل المقالة الأولى يبين الاحتمال الثاني ويؤكده ; لأنه ذكر فيه أن رسول الله - عليه السلام - قال للناس: "تصدقوا" فألقوا ثيابهم، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه في حال خطبة الإمام مكروه، وكذلك مسه الحصى، وقوله لصاحبه: أنصت، فدل ذلك على أن أمر النبي - عليه السلام - سليكا بما أمره به إنما كان ذلك في حال إباحة الكلام وسائر الأفعال في الخطبة، ثم لما حرم الكلام وغيره فيها منع من الصلاة أيضا على ما يجيء إن شاء الله تعالى.

                                                وقد قال بعضهم: إنما كان ذلك قبل شروعه - عليه السلام - في الخطبة، والدليل عليه أن [ ص: 29 ] النسائي بوب في "سننه الكبرى" على حديث سليك فقال: باب الصلاة قبل الخطبة، ثم أخرج عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال: "جاء سليك الغطفاني ورسول الله - عليه السلام - قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له - عليه السلام -: أركعت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما" انتهى.

                                                وقد روي عن أنس ما يبين الاحتمال الأول ويؤكده، وهو ما رواه الدارقطني في "سننه" من حديث عبيد بن محمد العبدي، ثنا معتمر ، عن أبيه، عن قتادة ، عن أنس قال: "دخل رجل المسجد ورسول الله - عليه السلام - يخطب، فقال له النبي - عليه السلام -: قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته". ثم قال: أسنده عبيد بن محمد ووهم فيه.

                                                ثم أخرجه عن أحمد بن حنبل: ثنا معتمر ، عن أبيه قال: "جاء رجل والنبي - عليه السلام - يخطب، فقال: يا فلان، أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصل، ثم انتظره حتى صلى".

                                                قال: وهذا المرسل هو الصواب.

                                                وقال ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، أنا أبو معشر ، عن محمد بن قيس: "أن النبي - عليه السلام - حيث أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه ثم عاد إلى خطبته".

                                                وأما الحديث الذي ورد وهو يخالف حديث سليك صريحا فهو ما أخرجه عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني ، عن عبد الله بن وهب المصري ، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس، عن أبي الزاهرية حدير بن [ ص: 30 ] كريب الحضرمي الحمصي ، عن عبد الله بن بسر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- الصحابي - رضي الله عنه -.

                                                وإسناده صحيح، ورجاله رجال "الصحيح" ما خلا بحر بن نصر .

                                                وأخرجه أبو داود: ثنا هارون بن معروف، نا بشر بن السري، نا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية قال: "كنا مع عبد الله بن بسر صاحب النبي - عليه السلام - يوم الجمعة فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، فقال عبد الله بن بسر: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - عليه السلام - يخطب، فقال له رسول الله - عليه السلام -: اجلس فقد آذيت".

                                                وأخرجه النسائي نحوه: عن وهب بن بيان ، عن عبد الله بن وهب ، عن معاوية بن صالح. انتهى.

                                                فهذا يدل على أن الداخل يوم الجمعة والإمام يخطب يقعد ولا يصلي شيئا ; لأن رسول الله - عليه السلام - أمر هذا الرجل بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، ولو كانت الصلاة مفعولة في هذا الوقت لأمره بها ونسبه أيضا إلى الإيذاء حيث قال له: "آذيت" أي آذيت الناس بتخطي رقابهم، ونسبه أيضا إلى التقصير في فعله هذا حيث قال له: "وآنيت" أي أخرت المجيء وأبطأت فيه، ومنه قيل للمتمكث في الأمر: متأن، فدل هذا كله أن ما كان من حديث سليك في حالة كان الحكم فيها في ذلك بخلاف الحكم فيما بعد ذلك وهو معنى "فدل ذلك على أن ما كان. . . " إلى آخره.

                                                قوله: "في حال الحكم فيها" بتنوين "حال"، وقوله: "الحكم" بالرفع مبتدأ وخبره قوله: "بخلاف الحكم".

                                                [ ص: 31 ] فإن قيل: فقد قال ابن حزم: وهذا الحديث لا حجة لهم لوجوه أربعة:

                                                أولها: أنه لا يصح لأنه من طريق معاوية بن صالح، لم يروه غيره، وهو ضعيف.

                                                والثاني: أنه ليس في الحديث أنه لم يكن ركعهما، وقد يمكن أن يكون ركعهما ثم تخطى، ويمكن أن لا يكون ركعهما، فإذ ليس في الخبر لا أنه ركع ولا أنه لم يركع ; فلا حجة لهم فيه ولا عليهم.

                                                والثالث: أنه حتى لو صح الخبر وكان فيه أنه لم يكن ركع ; لكان ممكنا أن يكون قبل أمر النبي - عليه السلام - من جاء والإمام يخطب بالركوع، وممكن أن يكون ركع ; فإذ ليس فيه بيان بأحد الوجهين فلا حجة لهم ولا عليهم.

                                                والرابع: أنه لو صح الخبر وصح أنه لم يكن ركع، وصح أن ذلك كان بعد أمره - عليه السلام - من جاء والإمام يخطب بأن يركع -وكل ذلك لا يصح منه شيء- لما كانت لهم فيه حجة ; لأننا لم نقل: إنهما فرض، وإنما قلنا: إنهما سنة يكره تركهما وليس فيه حكم صلاتهما فبطل تعلقهم بهذا الخبر الفاسد جملة.

                                                قلت: كل هذا كلام فاسد ناشئ عن قلة فطانة ويبس دماغ، وكيف يكون هذا الخبر فاسدا وقد أخرجه أبو داود وسكت عنه وهو دليل الصحة عنده، وكيف يضعف معاوية بن صالح وقد وثقه يحيى بن معين وأبو زرعة الإمامان في هذا الشأن، ووثقه العجلي والنسائي أيضا، واحتج به مسلم في "صحيحه"، واحتجت به الأربعة أيضا، وباقي كلامه خلط لا يستحق الجواب لسقوطه، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية