الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2159 ص: ولقد تواترت الروايات عن رسول الله - عليه السلام - بأن من قال لصاحبه: أنصت. والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغى، حدثنا بذلك يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت".

                                                [ ص: 32 ] حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا القاسم بن معن ، عن ابن جريج ، عن ابن شهاب ... فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: ثنا عقيل ، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عمر بن عبد العزيز ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وعن سعيد بن المسيب أنهما حدثاه، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - أنه سمعه يقول: "إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت".

                                                فإذا كان قول الرجل لصاحبه والإمام يخطب: أنصت لغوا، كان قول الإمام للرجل: قم فصل لغوا أيضا، فثبت بذلك أن الوقت الذي كان فيه من رسول الله - عليه السلام - الأمر لسليك بما أمره به إنما كان قبل النهي وكان الحكم فيه في ذلك بخلاف الحكم في الوقت الذي جعل مثل ذلك لغوا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي لقد تكاثرت وتتابعت الروايات عن النبي - عليه السلام - بأن من قال لصاحبه: أنصت والإمام يخطب فقد لغى.

                                                أخرجه عن أبي هريرة من ثلاث طرق صحاح، وأخرج هذا وأمثاله لكونها حجة لأهل المقالة الثانية، ولدلالة ما فيها من كون قول الرجل لصاحبه: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة لغوا على كون قول الإمام أيضا لغيره: قم فصل، لغوا، فإذا كان كذلك، يكون الوقت الذي أمر النبي - عليه السلام - فيه سليكا أن يركع غير الوقت الذي جعل مثل ذلك لغوا، فكان ذاك حينما كان الكلام مباحا في الصلاة، ثم نسخ بعد ذلك كما قد قررناه.

                                                الطريق الأول: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سعيد بن المسيب ... إلى آخره.

                                                وأخرجه الجماعة غير الترمذي .

                                                [ ص: 33 ] فقال البخاري: ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت".

                                                وقال مسلم: ثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح بن المهاجر، كلاهما عن الليث، قال ابن رمح: أنا الليث ، عن عقيل ... إلى آخره نحوه.

                                                وقال أبو داود: نا القعنبي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ... إلى آخره نحوه.

                                                وقال النسائي: أنا قتيبة، قال: ثنا الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - عليه السلام - قال: "من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت فقد لغى".

                                                وقال ابن ماجه: نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا شبابة بن سوار ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة، أن النبي - عليه السلام - قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت".

                                                الثاني: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري ، عن القاسم بن معن بن عبد الرحمن المسعودي الكوفي ، عن عبد الملك بن جريج ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ... إلى آخره.

                                                الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث شيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ، عن عقيل -بضم العين- بن خالد ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عمر بن عبد العزيز ... إلى آخره.

                                                [ ص: 34 ] وأخرجه النسائي: نا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد ، عن أبيه، عن جده، قال: حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عمر بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وعن سعيد بن المسيب، أنهما حدثاه أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" انتهى.

                                                فهذا كما رأيت في رواية الطحاوي: عمر بن عبد العزيز ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، وفي رواية النسائي: عمر بن عبد العزيز ، عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ. وذكر ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" في باب من اسمه إبراهيم فقال: إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، روى عن عمر وعلي وأبي هريرة، روى عنه عمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم، سمعت أبي يقول ذلك.

                                                وقال في باب "العبادلة": عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الزهري روى عن أبي هريرة، روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعمر بن عبد العزيز وأبو أمامة ابن سهل وأبو صالح ذكوان وعبد الكريم أبو أمية، سمعت أبي يقول ذلك.

                                                قلت: كلاهما واحد، وقد قال في "التكميل": إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، ويقال: عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، واسمه خالد بن الحارث الكناني المدني تابعي رأى عمر وعليا - رضي الله عنهما -، انتهى.

                                                وأخرج لإبراهيم بن عبد الله بن قارظ: مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري في كتاب "الأدب"، وأخرج لعبد الله بن إبراهيم بن قارظ: أحمد ، ومسلم ، والنسائي .

                                                والحاصل: أنه في رواية مسلم والنسائي وأحمد بالوجهين المذكورين، وفي رواية أبي داود والترمذي والبخاري في كتاب "الأدب" بالوجه الأول، وكلاهما واحد كما ذكرنا.

                                                [ ص: 35 ] قوله: "والإمام يخطب" جملة حالية.

                                                قوله: "فقد لغوت" أي: قلت اللغو، وهو الكلام الملغي الساقط الباطل المردود، وقيل: معناه ملت عن الصواب، وقيل: تكلمت بما لا ينبغي.

                                                وفي رواية لمسلم: "فقد لغيت" قال أبو الزناد: هي لغة أبي هريرة، وإنما هو: "فقد لغوت".

                                                قال أهل اللغة: لغى يلغو لغوا، كغزا يغزو غزوا، ويقال: لغى يلغي لغى كعمى يعمي لغتان، والأول أفصح، وظاهر القرآن يقتضي الثانية التي هي لغة أبي هريرة قال الله تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه وهذا من لغى يلغي، ولو كان من الأولى لقال: والغوا -بضم الغين- وقال ابن السكيت وغيره: ومصدر الأول اللغو، ومصدر الثاني لغي.

                                                ثم اعلم: أن في هذا الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة، ونبه بهذا عما سواه ; لأنه إذا قال: أنصت -وهو في الأصل أمر بمعروف وسماه لغوا- فغيره من الكلام أولى، وإنما طريقته إذا أراد أن ينهى غيره عن الكلام أن يشير إليه بالسكوت إن فهمه، فإن تعذر فهمه فلينبهه بكلام مختصر ولا يزيد على أقل ممكن، واختلفوا فيه، هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟ فهما قولان للشافعي .

                                                قال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة.

                                                وحكي عن النخعي والشعبي وبعض السلف أنه لا يجب إلا إذا تلا فيها آية القرآن.

                                                قال: واختلفوا إذا لم يسمع الإمام، هل يلزمه الإنصات كما لو سمعه؟ فقال الجمهور: يلزمه. وقال النخعي وأحمد وهو أحد قولي الشافعي: لا يلزمه. وقال [ ص: 36 ] صاحب "المحيط": وإن كان بعيدا عن الخطيب لا يستمع، قيل: يقرأ القرآن في نفسه، وقيل: يسكت، وهو الأصح ; لأنه مأمور بالاستماع والإنصات، فإن عجز عن الاستماع لم يعجز عن الإنصات فيلزمه، والحكم بن زهير كان يناظر في الفقه وهو من كبار أصحابنا.




                                                الخدمات العلمية