الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( القسم السابع ) الجهل بقدم الصفات لا بوجودها وتعلقها كقول الكرامية بحدوث الإرادة ونحوها ، وفي التكفير بذلك أيضا قولان الصحيح عدم التكفير .

( القسم الثامن ) الجهل بما وقع أو يقع من متعلقات الصفات وهو قسمان أحدهما كفر إجماعا وهو المراد هاهنا كالجهل بأن الله تعالى أراد بعثة الرسل ، وأرسلهم لخلقه بالرسائل الربانية وكالجهل ببعثة الخلائق يوم القيامة ، وإحيائهم من قبورهم وجزائهم على أعمالهم على التفصيل الوارد في الكتاب والسنة فالجهل بهذا كفر [ ص: 131 ] إجماعا ، وهو مذهب الفلاسفة ، ومن تابعهم .

( القسم التاسع ) الجهل بما وقع من متعلقات الصفات وهو تعلقها بإيجاد ما لا مصلحة فيه للخلق هل يجوز هذا على الله تعالى أم لا فأهل الحق يجوزونه ، وأن يفعل لعباده ما هو الأصلح لهم ، وأن لا يفعله كل ذلك له تعالى فكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل والخلائق دائرون بين فضله وعدله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وفي تكفير المعتزلة بذلك قولان كما تقدم ، والصحيح عدم تكفيرهم .

( القسم العاشر ) ما وقع من متعلقات الصفات الربانية أو يقع مما لم يكلف به كخلق حيوان في العالم أو إجراء نهر أو إماتة حيوان ونحو ذلك فهذا القسم لا خلاف فيه أنه ليس بمعصية وهو جهل بل قد يكلف بمعرفة ذلك من قبل الشرائع لأمر يخص تلك الصورة لا ؛ لأن الجهل به [ ص: 132 ] في حق الله منهي عنه وهذا القسم هو أحد القسمين اللذين في القسم الثامن فهذه عشرة أقسام في الجهل المتعلق بذات الله وصفاته العلى ، ومتعلقات الصفات وبيان الكفر فيها من غيره والمجمع عليه منها من المختلف فيه مفصلا ، وتبين بذلك ما هو كفر منها مما ليس بكفر ، هذا ما يتعلق بالجهل ، وأما ما يتعلق بالجراءة على الله تعالى فهو المجال الصعب في التحرير وذلك أن الصغائر والكبائر وجميع المعاصي كلها جرأة على الله تعالى ؛ لأن مخالفة أمر الملك العظيم جراءة عليه كيف كان فتمييز ما هو كفر منها مبيح للدم موجب للخلود هذا هو المكان الحرج في التحرير والفتوى ، والتعرض إلى الحد الذي [ ص: 133 ] يمتاز به أعلى رتب الكبائر من أدنى رتب الكفر عسير جدا بل الطريق المحصل لذلك أن يكثر من حفظ فتاوى المتقدمين المقتدى بهم من العلماء في ذلك وينظر ما وقع له هل هو من جنس ما أفتوا فيه بالكفر أو من جنس ما أفتوا فيه بعدم الكفر فيلحقه بعد إمعان النظر وجودة الفكر بما هو من جنسه فإن أشكل عليه الأمر أو وقعت المشابهة بين أصلين مختلفين أو لم تكن له أهلية النظر في ذلك لقصوره وجب عليه التوفيق ، ولا يفتي بشيء فهذا هو الضابط لهذا الباب . أما عبارة مانعة جامعة لهذا المعنى فهي من المتعذرات عند من عرف غور هذا الموضع

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( شهاب الدين القسم السابع الجهل بقدم الصفات لا بوجودها وتعلقها كقول الكرامية بحدوث الإرادة ونحوها ، وفي التكفير بذلك أيضا قولان الصحيح عدم التكفير ) قلت : ما قاله نقل وترجيح لا كلام فيه ، وما قاله في القسم الثامن صحيح أيضا لكن فيه إطلاق لفظ الجهل على المذهب الباطل فإن الفلاسفة مذهبهم الجزم بأن لا بعثة للأجسام ، وما قاله في القسم التاسع نقل وترجيح [ ص: 131 ]

قال : ( القسم العاشر ما وقع من متعلقات الصفات الربانية أو يقع ما لم يكلف به كخلق حيوان في العالم أو إجراء نهر أو إماتة حيوان ونحو ذلك فهذا القسم لا خلاف أنه ليس بمعصية وهو جهل ) قلت : إن أراد الجهل بأن الله تعالى خلق شيئا من الحيوانات الموجودات المعلوم وجودها فذلك كفر لا شك فيه ، وإن أراد الجهل بأن الله تعالى خلق حيوانا لا يعلم وجوده فذلك ليس بكفر ولا معصية ؛ لأن ذلك الجهل ليس براجع إلى الجهل بتعلق صفات الله تعالى به بل بوجود هذا المتعلق . قال : ( بل قد يكلف بمعرفة ذلك من قبل الشرائع لأمر يخص تلك الصورة لا لأن الجهل به [ ص: 132 ] في حق الله تعالى منهي عنه ) قلت : إن أراد مثل السحر الذي يكفر به فذلك ، وإلا فلا أدري ما أراد . قال : ( وهذا القسم الثاني هو أحد القسمين اللذين في القسم الثامن فهذه عشرة أقسام من الجهل المتعلق بذات الله تعالى وصفاته العلى ومتعلقات الصفات وبيان الكفر فيها من غيره والمجمع عليه منها من المختلف فيه مفصلا وتبين بذلك ما هو كفر منها مما ليس بكفر ) قلت : فيما قاله إن أراد حصر الكفر في ذلك نظر .

قال : ( هذا ما يتعلق بالجهل ، وأما ما يتعلق بالجراءة على الله تعالى فهو المجال الصعب في التحرير ، وذلك أن الصغائر والكبائر وجميع المعاصي كلها جراءة على الله تعالى ؛ لأن مخالفة أمر الملك العظيم جراءة عليه كيف كان فتمييز ما هو كفر منها مبيح للدم موجب للخلود هذا هو المكان الحرج في التحرير والفتوى ، والتعرض إلى الحدود الذي [ ص: 133 ] يمتاز به أعلى رتب الكبائر من أدنى رتب الكفر عسير جدا بل الطريق المحصل لذلك أن يكثر من حفظ فتاوى المقتدى بهم من العلماء في ذلك وينظر ما وقع له هل هو من جنس ما أفتوا فيه بالكفر أو من جنس ما أفتوا فيه بعدم الكفر فيلحقه بعد إمعان النظر وجودة الفكر بما هو من جنسه فإن أشكل عليه الأمر أو وقعت المشابهة بين أصلين مختلفين أو لم يكن له أهلية النظر في ذلك لقصوره وجب عليه التوقف ، ولا يفتي بشيء فهذا هو الضابط لهذا الباب . أما عبارة جامعة لهذا المعنى فهي من المتعذرات عند من عرف غور هذا الموضع )

قلت : ليس ما قاله في ذلك بصحيح فإن التكفير لا يصح إلا بقاطع سمعي وما ذكره ليس كذلك فلا معول عليه ، ولا مستند فيه ، والله تعالى أعلم [ ص: 134 ] .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( والسابع ) الجهل بقدم الصفات لا بوجودها وتعلقها كقول الكرامية بحدوث الإرادة ونحوها وفي التكفير بذلك أيضا قولان الصحيح عدم التكفير .

( والثامن والتاسع ) الجهل بما وقع أو يقع من متعلقات الصفات وهو قسمان أحدهما كفر إجماعا وهو المراد هاهنا كجهل الفلاسفة ، ومن تابعهم بأن الله تعالى أراد بعثة الرسل ، وأرسلهم لخلقه بالرسائل الربانية وكجهلهم ببعثة الخلائق يوم القيامة ، وإحيائهم من قبورهم وجزائهم على أعمالهم على التفصيل الوارد في الكتاب والسنة .

( وثانيهما ) ما لا خلاف في أنه ليس بمعصية كالجهل بخلق حيوان في العالم أو إجراء نهر أو إماتة حيوان ونحو ذلك نعم قد يكلف الشرع بمعرفة بعض الصور من ذلك لأمر يخص تلك الصورة لا لأن الجهل به في حق الله تعالى منهي عنه .

( والعاشر ) الجهل بما وقع من متعلقات الصفات وهو تعلقها بإيجاد ما لا مصلحة فيه للخلق هل يجوز هذا على الله تعالى أم لا فأهل الحق يجوزونه ، وأن يفعل لعباده ما هو الأصلح لهم ، وأن لا يفعله كل ذلك له تعالى فكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل والخلائق دائرون بين فضله وعدله { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } .

والمعتزلة لا يجوزون ذلك ويوجبون عليه تعالى الصلاح والأصلح وفي تكفيرهم بذلك قولان والصحيح عدم تكفيرهم كما تقدم وبتفصيل هذه الأقسام على ما ذكر تبين ما هو كفر منها مما ليس بكفر .

وأما ما يتعلق بالجرأة على الله تعالى فهو المجال الصعب في التحرير ؛ لأن مخالفة أمر الملك العظيم في جميع المعاصي صغائرها وكبائرها جرأة عليه كيف كان فتمييز ما هو كفر منها مبيح للدم موجب للخلود في النار مما ليس كذلك هو المكان الحرج في التحرير والفتوى فمن هنا استشكل بعض العلماء الفرق بين السجود للشجرة والسجود للوالد بأن الأول كيف يكون كفرا دون الثاني ، والساجد في الحالين يعتقد ما يجب لله تعالى وما يستحيل ، وما يجوز عليه ، وإنما أراد التشريك في السجود وهو يعتقد بذلك التقرب إلى الله تعالى في الحالين وقد قالت عبدة الأوثان { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } .

والقاعدة أن الفرق بين الكفر والكبيرة مع اشتراكهما في المفسدة والنهي والتحريم إنما هو بعظم المفسدة وصغرها ، ولم يظهر عظمها هنا ، ولا يمكن أن يقال إن الأمر والنهي عن السجود كان مفسدة ، وإن أمر به كان مصلحة ؛ لأن هذا يلزم منه الدور ؛ لأن المفسدة حينئذ تكون تابعة للنهي مع أن النهي يتبع المفسدة فيكون كل واحد منهما تابعا لصاحبه فيلزم الدور ، بل الحق أن المفسدة يتبعها النهي ، والنهي يتبعه العقاب ، وما لا مفسدة فيه لا يكون منهيا عنه ، ولا معاقبا عليه واستقراء الشرائع يدل على النهي [ ص: 182 ] عما فيه مفسدة وعدم النهي عما لا مفسدة فيه . ألا ترى أن السرقة لما كان فيها ضياع المال نهى عنها ، وأن القتل لما كان فيه فوات الحياة نهى عنه ، وأن الزنا لما كان فيه اختلاط الأنساب نهى عنه ، وأن الخمر لما كان فيه ذهاب العقول نهى عنه وأن العصير لما كان لا يفسد العقل لم يكن منهيا عنه ، وأن الخمر إذا صار خلا انتفى عنه فساد العقل فذهب عنه النهي ويدل أيضا على أن المفاسد والمصالح سابقة على الأوامر والنواهي ، وأن الثواب والعقاب تابع للأوامر والنواهي فما فيه مفسدة ينهى عنه فإذا فعل حصل العقاب وما فيه مصلحة أمر به فإذا فعل حصل الثواب فالثواب والعقاب في الرتبة الثالثة ، والأمر والنهي في الرتبة الثانية ، والمفسدة والمصلحة في الرتبة الأولى فلو علل الأمر والنهي بالثواب والعقاب لزم تقدم الشيء على نفسه برتبتين فقول الأغبياء من الطلبة مصلحة هذا الأمر أنه يثاب عليه غلط .

وحيث علمت ذلك فالطريق المحصل للحد الذي يمتاز به أعلى رتب الكبائر من أدنى رتب الكفر هو أن يكثر من حفظ فتاوى المتقدمين المقتدى بهم من العلماء في ذلك وينظر ما وقع له من النوازل هل هو من جنس ما أفتوا فيه بالكفر أو من جنس ما أفتوا فيه بعدم الكفر فيلحقه بعد إمعان النظر وجودة الفكر بما هو من جنسه فإن أشكل عليه الأمر أو وقعت المشابهة بين أصلين مختلفين أو لم تكن له أهلية النظر في ذلك لقصوره وجب عليه التوقف ، ولا يفتي بشيء فهذا هو الضابط لهذا الباب .

ويوضحه ثلاث مسائل . ( المسألة الأولى ) أن السجود للشجرة إنما اقتضى الكفر دون السجود للوالد ؛ لأن فيه من المفسدة التي نعلمها ما يقتضي الكفر دون السجود للوالد إذ الشجرة ليست من المقصود بالتعظيم شرعا وقد عبدت مدة بخلاف الوالد فإنه من المقصود بالتعظيم شرعا ، ولم يعبد مدة وقد أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا له ، ولم يكن قبلة على أحد القولين بل هو المقصود بالتعظيم بذلك السجود ، ولم يقل أحد إن الله تعالى أمر هنالك بما نهى عنه من الكفر ، ولا أنه أباح الكفر لأجل آدم ، ولا أن في السجود لآدم مفسدة تقتضي كفرا ، لو فعل من أمر غير ربه فافهم .




الخدمات العلمية