ولا ريب أن الأرجح في معنى الآية : أن أكثرهم ، أو كلهم يؤمنون بالله بأنه سبحانه خالقهم ، وخالق العالم كله ، ورازقهم ، ورازق جميع العباد ، بل الكائنات ، وهو مدبر الكل ، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يشركون به في أنواع العبادات .
فمنهم من يغلو في الأموات ، ويفعل في قبورهم ما يؤدي إلى الشرك ؛ من السجدة ، والطواف ، وطلب الحاجة منهم ، ودعوتهم في الشدائد ، والنذور لأجداثهم مع إيقاد السرج ، وإلقاء الرداء ، وما أشبه ذلك.
وهذا الشرك قد طم ، وعم في الناس حتى لا ينجو منه أهل العلم ، والسلوك أيضا ، وإن كانوا مؤولين لأفعالهم ، وأحوالهم .
فالمراد بالآية الشريفة : أن التوحيد الرباني حاصل لهم .
وأما التوحيد الإلهي -بمعنى :
nindex.php?page=treesubj&link=29428_19696إخلاص العبادة على كثرة أنواعها لله تعالى- لا يحصل إلا لأفراد قليلة منهم .
وهذا صحيح ثابت ، ويدل له الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية .
فصدق على مثل هؤلاء أنهم مؤمنون بالله بتوحيد الربوبية ، ومشركون به سبحانه في توحيد الألوهية .
[ ص: 390 ]
وليس النزاع في وحدة الرب تعالى في رد الشرك ، إنما النزاع في توحيد الألوهية التي هي تحقيق العبادة ، مع الإخلاص له سبحانه في كل نوع منها ، جلي ، وخفي ، ففيها الآفة العظمى ، والبلية الكبرى ، ولا حول عن الفراق منها ولا قوة على التوحيد فيها إلا بالله تعالى .
قال السيد
الإمام عبد الرحمن بن سليمان -رحمه الله - : إن
nindex.php?page=treesubj&link=28658توحيد الربوبية هو اعتقاد العبد أن لا رب إلا الله ؛ أي : لا خالق ، ولا رازق ، ولا ضار ولا نافع ، ولا معطي ، ولا مانع ، ولا محيي ، ولا مميت إلا هو .
وهذا التوحيد يقر به المشركون ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان : 25] ، والآيات القرآنية في مثل هذا كثيرة .
وإن
nindex.php?page=treesubj&link=28663توحيد الألوهية هو اعتقاد العبد أن لا إله إلا الله ؛ أي : لا معبود بحق إلا الله .
والمعبود بحق : معناه : من يستحق العبادة ، وليس ذلك إلا الله تعالى .
nindex.php?page=treesubj&link=28345والعبادة : هي التذلل بما شرعه الله به من الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج ، والحلف ، والنذر ، والذبح ، والخوف ، والرجاء ، والمحبة ، والتوكل ، وغير ذلك من أنواع العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى .
فمن اعتقد أن مخلوقا ؛ من ملك ، أو نبي ، أو رسول ، أو ولي ، أو غير ذلك يستحق شيئا من هذه العبادة التي لا تكون إلا لله ، فهو كافر .
ولا بد من إخلاص التوحيدين ، فلا ينفع أحدهما بدون الآخر ، وإن توحيد الربوبية هو الدليل على توحيد الألوهية .
وما بعث الله -عز وجل - الأنبياء ، وأرسل الرسل ، وأنزل عليهم الكتب ، وختمهم بنبينا صلى الله عليه وسلم إلا لتعريف الخلق توحيد الألوهية علما ، وعملا ، والله أعلم . انتهى .
وقال الله -سبحانه وتعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [لقمان : 13] .
[ ص: 391 ]
كان الله تعالى أعطى
لقمان عقلا سليما ، وفكرا صحيحا ، وحكمة مستقيمة ، فعلم ، وفهم أن الظلم إنما هو أن يعطي حق أحد أحدا ، ويضع شيئا في غير موضعه .
فمن أعطى حق الله تعالى مخلوقه ، فهو قد أعطى حق أكبر الكبراء أذل ذليل ؛ كما يضع أحد تاج الملك على رأس الدباغ ، ولا ظلم أزيد من ذلك.
وعلمت أن المخلوق - كبيرا كان ، أو صغيرا - هو في حيال الله سبحانه أذل من الدباغ ، وأحقر من الذباب ؛ كما في المثل السائر : ما للتراب ورب الأرباب ؟ !
والآية تدل بفحوى الخطاب على أن الشرك كما هو من العيوب الكبار شرعا ، وهو الحق ، فكذلك هو عيب عند العقل أيضا ؛ لأن أكبر العيوب في الآدمي أن يسيء الأدب مع أكابره .
فالله سبحانه لا أكبر منه ، ولا أعلى ، فالشرك به في شيء إساءة أدب معه تعالى .
وقد قال تعالى في سورة الأنبياء :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء : 25] يعني : كل رسول جاء من عند الله ، فقد جاء ، وأتى بهذا الحكم : أن العبادة ينبغي أن تكون له لا لغيره .
فكانت مسألة التوحيد ، والمنع من الإشراك مجمعا عليها في جميع الشرائع على ألسنة جميع الرسل - عليهم السلام - .
فهذا هو سبيل النجاة ، وجملة السبل غيره طريق الهلاك .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَرْجَحَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ أَكْثَرَهُمْ ، أَوْ كُلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُهُمْ ، وَخَالِقُ الْعَالَمِ كُلِّهِ ، وَرَازِقُهُمْ ، وَرَازِقُ جَمِيعِ الْعِبَادِ ، بَلِ الْكَائِنَاتِ ، وَهُوَ مُدَبِّرُ الْكُلِّ ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يُشْرِكُونَ بِهِ فِي أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو فِي الْأَمْوَاتِ ، وَيَفْعَلُ فِي قُبُورِهِمْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الشِّرْكِ ؛ مِنَ السَّجْدَةِ ، وَالطَّوَافِ ، وَطَلَبِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ ، وَدَعْوَتِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ ، وَالنُّذُورِ لِأَجْدَاثِهِمْ مَعَ إِيقَادِ السُّرُجِ ، وَإِلْقَاءِ الرِّدَاءِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الشِّرْكُ قَدْ طَمَّ ، وَعَمَّ فِي النَّاسِ حَتَّى لَا يَنْجُوَ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَالسُّلُوكِ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانُوا مُؤَوِّلِينَ لِأَفْعَالِهِمْ ، وَأَحْوَالِهِمْ .
فَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ : أَنَّ التَّوْحِيدَ الرَّبَّانِيَّ حَاصِلٌ لَهُمْ .
وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الْإِلَهِيُّ -بِمَعْنَى :
nindex.php?page=treesubj&link=29428_19696إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ عَلَى كَثْرَةِ أَنْوَاعِهَا لِلَّهِ تَعَالَى- لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِأَفْرَادٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُمْ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ ، وَيَدُلُّ لَهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ ، وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ .
فَصَدَقَ عَلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَمُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ .
[ ص: 390 ]
وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي وَحْدَةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي رَدِّ الشِّرْكِ ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّتِي هِيَ تَحْقِيقُ الْعِبَادَةِ ، مَعَ الْإِخْلَاصِ لَهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا ، جَلِيٌّ ، وَخَفِيٌّ ، فَفِيهَا الْآفَةُ الْعُظْمَى ، وَالْبَلِيَّةُ الْكُبْرَى ، وَلَا حَوْلَ عَنِ الْفِرَاقِ مِنْهَا وَلَا قُوَّةَ عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهَا إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ السَّيِّدُ
الْإِمَامُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ -رَحِمَهُ اللَّهُ - : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ اعْتِقَادُ الْعَبْدِ أَنْ لَا رَبَّ إِلَّا اللَّهُ ؛ أَيْ : لَا خَالِقَ ، وَلَا رَازِقَ ، وَلَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ ، وَلَا مُعْطِيَ ، وَلَا مَانِعَ ، وَلَا مُحْيِيَ ، وَلَا مُمِيتَ إِلَّا هُوَ .
وَهَذَا التَّوْحِيدُ يُقِرُّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ : 25] ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ .
وَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28663تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ هُوَ اعْتِقَادُ الْعَبْدِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؛ أَيْ : لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ .
وَالْمَعْبُودُ بِحَقٍّ : مَعْنَاهُ : مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى .
nindex.php?page=treesubj&link=28345وَالْعِبَادَةُ : هِيَ التَّذَلُّلُ بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالْحَجِّ ، وَالْحَلِفِ ، وَالنَّذْرِ ، وَالذَّبْحِ ، وَالْخَوْفِ ، وَالرَّجَاءِ ، وَالْمَحَبَّةِ ، وَالتَّوَكُّلِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَخْلُوقًا ؛ مِنْ مَلَكٍ ، أَوْ نَبِيٍّ ، أَوْ رَسُولٍ ، أَوْ وَلِيٍّ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ ، فَهُوَ كَافِرٌ .
وَلَا بُدَّ مِنْ إِخْلَاصِ التَّوْحِيدَيْنِ ، فَلَا يَنْفَعُ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ ، وَإِنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ .
وَمَا بَعَثَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ - الْأَنْبِيَاءَ ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ ، وَخَتَمَهُمْ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا لِتَعْرِيفِ الْخَلْقِ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ عِلْمًا ، وَعَمَلًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى .
وَقَالَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ : 13] .
[ ص: 391 ]
كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَى
لُقْمَانَ عَقْلًا سَلِيمًا ، وَفِكْرًا صَحِيحًا ، وَحِكْمَةً مُسْتَقِيمَةً ، فَعَلِمَ ، وَفَهِمَ أَنَّ الظُّلْمَ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يُعْطِيَ حَقَّ أَحَدٍ أَحَدًا ، وَيَضَعَ شَيْئًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
فَمَنْ أَعْطَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَخْلُوقَهُ ، فَهُوَ قَدْ أَعْطَى حَقَّ أَكْبَرِ الْكُبَرَاءِ أَذَلَّ ذَلِيلٍ ؛ كَمَا يَضَعُ أَحَدٌ تَاجَ الْمَلِكِ عَلَى رَأْسِ الدَّبَّاغِ ، وَلَا ظُلْمَ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ.
وَعَلِمْتَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ - كَبِيرًا كَانَ ، أَوْ صَغِيرًا - هُوَ فِي حِيَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَذَلُّ مِنَ الدَّبَّاغِ ، وَأَحْقَرُ مِنَ الذُّبَابِ ؛ كَمَا فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ : مَا لِلتُّرَابِ وَرَبِّ الْأَرْبَابِ ؟ !
وَالْآيَةُ تَدُلُّ بِفَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ كَمَا هُوَ مِنَ الْعُيُوبِ الْكِبَارِ شَرْعًا ، وَهُوَ الْحَقُّ ، فَكَذَلِكَ هُوَ عَيْبٌ عِنْدَ الْعَقْلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الْعُيُوبِ فِي الْآدَمِيِّ أَنْ يُسِيءَ الْأَدَبَ مَعَ أَكَابِرِهِ .
فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا أَكْبَرَ مِنْهُ ، وَلَا أَعْلَى ، فَالشِّرْكُ بِهِ فِي شَيْءٍ إِسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَهُ تَعَالَى .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=25وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ : 25] يَعْنِي : كُلَّ رَسُولٍ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فَقَدْ جَاءَ ، وَأَتَى بِهَذَا الْحُكْمِ : أَنَّ الْعِبَادَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ .
فَكَانَتْ مَسْأَلَةُ التَّوْحِيدِ ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْإِشْرَاكِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - .
فَهَذَا هُوَ سَبِيلُ النَّجَاةِ ، وَجُمَلَةُ السُّبُلِ غَيْرِهِ طَرِيقُ الْهَلَاكِ .