الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات، حصل له أعظم غايتين مطلوبتين بهما سعادته، وفلاحه، وكماله، وهما: الهدى والرحمة.

قال تعالى: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [الكهف: 65] فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظير قول أصحاب الكهف: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا [الكهف: 10].

فإن الرشد هو العلم بما ينفع، والعمل به، والرشد والهدى إذا أفرد كل منهما تضمن الآخر، وإذا قرن أحدهما بالآخر فالهدى هو العلم بالحق، والرشد هو العمل به، وضدهما الغي واتباع الهوى.

[ ص: 393 ] وقد يقابل الرشد بالضر والشر، قال تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا [الجن: 21] وقال مؤمنو الجن: وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا [الجن: 10].

والقرآن هو الهدى، والرحمة، والشفاء، والموعظة. قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين [يونس: 57].

والله سبحانه قد هدى خلقه، ولكن المحل القابل للهدى هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه، الخائف منه، الذي يبتغي رضاه، ويهرب من سخطه.

فإذا هداه الله، وصل أثره إلى محل قابل، فأثر به، فصار هدى له، وشفاء، ورحمة، وموعظة بالوجود، والفعل والقبول.

وإذا لم يكن المحل قابلا، وصار إليه الهدى لم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئا، بل لا يزيده إلا ضعفا، وفسادا إلى فساده.

قال تعالى: فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [التوبة: 124 - 125].

وقال: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [الإسراء: 82].

والرحمة في حق المؤمنين عاجلة وآجلة.

فأما العاجلة، فما يعطيهم الله في الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان، ووجدان حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله لما أضل عنه غيرهم، ولما اختلف فيه من الحق بإذنه.

وأما الآجلة، فما أعد لهم في دار النعيم.

[ ص: 394 ] وهاهنا نكتة، وهي أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الفجار في الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل.

وكذلك، قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين.

فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون: 8] وقوله: وإن جندنا لهم الغالبون [الصافات: 173] وقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [المجادلة: 21] وقوله: والعاقبة للمتقين [الأعراف: 128] ونحو هذه الآيات، وهو ممن يصدق القرآن، حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، وقال: أما في الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها، ويظهرون، ويكون لهم النصر والظفر، والقرآن لا يرد بخلاف الحس.

ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين، وهو -عند نفسه- من أهل الإيمان والتقوى، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق.

فإذا ذكر بما وعده الله من حسن العاقبة للمتقين، قال: هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فصاحب الحق مغلوب مقهور.

وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأهل الحق؟.

فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله بالحكم والمصالح، قال: يفعل الله في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.

وإن كان ممن يعلل الأفعال، قال: فعل بهم هذا ليعوضهم بالصبر عليه ثواب الآخرة، وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب.

ولقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظليم للرب، واتهامه بما لا يصدر إلا من عدو.

[ ص: 395 ] وكان الجهم يخرج بأصحابه، فيقف بهم على الجذمى وأهل البلاء، ويقول: انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؛ إنكارا لرحمته كما أنكر حكمته.

فليس الله -عند جهم وأتباعه- حكيما، ولا رحيما.

وقال بعض كبار القوم: ما على الخلق أضر من الخالق، وكان بعضهم يتمثل:


إذا كان هذا فعله في محبه فماذا تراه في أعاديه يصنع؟

وقال لي غير واحد: إذا تبت إليه، وأنبت، وعملت صالحا، ضيق علي رزقي، ونكد معيشتي.

وإذا راجعت معصية، فأعطيت نفسي مرادها، جاءني الرزق.

فقلت لبعضهم: ليرى صدقك وصبرك، وهل أنت صادق في إقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة؟ أم أنت كاذب فترجع على عقبك؟

وهذه الظنون الكاذبة مبنية على مقدمتين.

إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه، وتدينه، واعتقاده، وأنه قائم بما يجب عليه، تارك ما نهي عنه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور.

المقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه قد لا يؤيد صاحب الدين الحق، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مع قيامه بما أمر ظاهرا وباطنا، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم والفجور والعدوان.

فلا إله إلا الله! كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومتنسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين!

فإنه من المعلوم أن العبد وإن آمن بالآخرة -فإنه طلب في الدنيا ما لا بد منه من جلب النفع ودفع الضرر- يعتقد أنه واجب، أو مستحب، أو مباح.

[ ص: 396 ] فإذا اعتقد أن الدين الحق، واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة، ينافي ذلك، وأنه يعادي جميع أهل الأرض، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء وفوات حظوظه، ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه، وتجرده لله ولرسوله.

فيعرض عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين من أصحاب اليمين، بل قد يدخل مع الظالمين، بل مع المنافقين.

وإن لم يكن هذا في أصل الدين، كان في كثير من فروعه وأعماله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنا، ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا».

وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لا بد له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.

فسبحان الله!! كم صدت هذه الفتنة كثيرا من الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين!!

ولا شك أن أصل المقدمتين اللتين بنيت عليهما هذه الفتنة: الجهل بأمر الله ودينه ووعده ووعيده، وحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس، وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها.

فيعرض عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم.

ويعتقد -لجهله أمر الدين- أنه قائم بالدين الحق، فاعل للمأمور ظاهرا وباطنا، تارك للمحظور كذلك؛ لجهله بالدين الحق، وما لله عليه، وما هو المراد منه.

وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا والآخرة، بل تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين، فهذا من جهله بوعد الله ووعيده.

[ ص: 397 ] فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها، فيكون مقصرا في العلم.

وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليدا، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك.

فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها.

وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات.

فتراه يتحرج من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات، وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما.

بل أكثر من يتعبد لله بترك ما أوجب عليه، فيتخلى، وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقرب إلى الله بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا يعنيه.

فهذا من أمقت الخلق إلى الله، مع ظنه أنه قائم بحق الإيمان وشرائع الإسلام، بل أكثر من يتعبد بما حرم عليه، ويعتقد أنه طاعة، وهو في ذلك شر ممن يعتقد ذلك معصية؛ كأصحاب السماع الشعري الذين يتقربون به إلى الله، ويظنون أنهم من أولياء الرحمن، وهم -في الحقيقة- من أولياء الشيطان.

وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه!!

ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق، ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل، وحبك للشيء يعمي ويصم.

والإنسان مجبول على حب نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يشتد حبه لنفسه حتى يرى مساوئها محاسن. قال تعالى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا [فاطر: 8].

[ ص: 398 ] والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأولياءه، والعزة والعلو لأهل الإيمان الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، قال تعالى: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران: 139].

فإذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه، أو ماله، أو بإدالة عدو[ه] عليه، فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم.

وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [النساء: 141].

ويجيب عنه كثير منهم: بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة، ويجيب آخرون: بأنه لن يجعل الله لهم عليهم سبيلا في الحجة.

والتحقيق: أن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، وإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة.

التالي السابق


الخدمات العلمية