الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان الأفضل من أخذ الصدقة أو الزكاة .

كان إبراهيم الخواص والجنيد وجماعة يرون أن الأخذ من الصدقة أفضل فإن في أخذ الزكاة مزاحمة للمساكين وتضييقا عليهم ولأنه ربما لا يكمل في أخذه صفة الاستحقاق كما وصف في الكتاب العزيز وأما الصدقة فالأمر فيها أوسع وقال قائلون بأخذ الزكاة دون الصدقة لأنها إعانة على الواجب ، ولو ترك المساكين كلهم أخذ الزكاة لأثموا ولأن الزكاة منه فيها وإنما هو حق واجب لله سبحانه رزقا لعباده المحتاجين ولأنه أخذ بالحاجة والإنسان يعلم حاجة نفسه قطعا وأخذ الصدقة أخذ بالدين ؛ فإن الغالب أن المتصدق يعطي من يعتقد فيه خيرا ولأن مرافقة المساكين أدخل في الذل والمسكنة وأبعد من التكبر إذ قد يأخذ الإنسان الصدقة في معرض الهدية فلا تتميز عنه ، وهذا تنصيص على ذل الآخذ وحاجته .

والقول الحق في هذا : يختلف بأحوال الشخص وما يغلب عليه وما يحضره من النية ، فإن كان في شبهة من اتصافه بصفة الاستحقاق فلا ينبغي أن يأخذ الزكاة فإذا علم أنه مستحق قطعا إذا حصل عليه دين صرفه إلى خير وليس له وجه في قضائه ، فهو مستحق قطعا ، فإذا خير هذا بين الزكاة وبين الصدقة فإذا كان صاحب الصدقة لا يتصدق بذلك المال لو لم يأخذه هو فليأخذ الصدقة فإن الزكاة الواجبة يصرفها صاحبها إلى مستحقها ففي ذلك تكثير للخير وتوسيع على المساكين .

وإن كان المال معرضا للصدقة ولم يكن في أخذ الزكاة تضييق على المساكين فهو مخير والأمر فيهما يتفاوت وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس وإذلالها في أغلب الأحوال والله أعلم .

كمل كتاب أسرار الزكاة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصوم .

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة والمقربين من أهل السموات والأرضين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل .

التالي السابق


(بيان الأفضل من أخذ الصدقة)

أي: التطوع (أو الزكاة) أي: أو واجب، وقد اختلفوا فيه؛ (كان إبراهيم) بن أحمد (الخواص) من رجال الحلية والرسالة (و) أبو القاسم (الجنيد) بن محمد البغدادي (وجماعة) آخرون ممن وافقهما (يرون أن الأخذ من الصدقة) أي: التطوع (أفضل) من أخذ الواجب، وعللوا ذلك بوجوه، وقالوا: (فإن في أخذ الزكاة) الواجب (مزاحمة للمساكين وتضييقا عليهم) في حقوقهم، (ولأنه ربما لا تكمل في أخذ صفة الاستحقاق) ، ولا يوجد فينا ما شرطه الله عز وجل لواجبه (كما وصف في الكتاب) العزيز، ولا نضعه في حقيقة موضعه، أو لا نختلط بمن يسقط عنه الواجب به، (وأما الصدقة فأوسع) علينا، أجروه مجرى الهدايا، وقد أمرنا بقبولها للتحاب، ومع هذا فإن القائلين به يشهدون النفحة من الله عز وجل، وإن الدين إنما هو لله عز وجل كما قال: ألا لله الدين الخالص ، وأنهم مستعملون بالديانة لا عاملون بأنفسهم؛ حيث كانوا منعما عليهم لا منعمين على أنفسهم، (وقال قائلون) من العارفين: إنه (يأخذ الزكاة) الواجب (دون الصدقة) فلا يقبل منها؛ (لأنه) في أخذه (إعانة على واجب، ولو ترك) الفقراء و (المساكين كلهم أخذ الزكاة) وتواطؤوا عليه (لأثموا) ؛ لأنهم أحد الأركان، لأنه لا يتأتى الإنفاق مع امتناعهم عن الأخذ، ومن لم يجد من يقبل زكاته فلا حرج عليه إذا لم يقع منه تقصير ولا منع، قالوا: (ولأنه لا منة) لأحد علينا (فيه) ، ولا حق له يلزمنا عليه، (وإنما هو حق واجب لله سبحانه) أوجبه علينا أن نأخذه من واجب الزكوات؛ (رزقا للعباد والمحتاجين) إليه، قالوا: (ولأنه أخذ بالحاجة) والفاقة وحرمة الإسلام فقط، (والإنسان يعلم حاجة نفسه قطعا) ، فإنما نستوجبه بذلك وهو أسلم لديننا؛ لئلا يدخل علينا الأكل بالدين (وأخذ الصدقة أخذ بالدين؛ فإن الغالب أن المتصدق يعطي من يعتقد فيه خيرا) وصلاحا واعتقاد فضل، فلا نختص بشيء دون الفقراء، قالوا: (ولأن موافقة المساكين) والفقراء (أدخل في الذل والمسكنة) وأقرب إلى التواضع (وأبعد من التكبر) والرعونة؛ (إذ قد يأخذ الإنسان الصدقة في معرض الهدية فلا تتميز عنه، وهذا تنصيص في ذل الآخذ وحاجته) ، وهذا مذهب القراء من العابدين، ومن ينظر إلى صلاحه ونفسه من الدين، هو مقتضى حالهم وموجب مشاهدتهم، (والقول الحق) الفصل (في هذا: أن هذا يختلف بأحوال الشخص وما يغلب عليه ويحضره من النية، فإن كان) الآخذ (في شبهة من اتصافه بصفة الاستحقاق) من الفقر والمسكنة وغيرهما مما هو مذكور في الآية، (فلا ينبغي أن يأخذ الزكاة) ، وتركه في حقه هو الواجب، (فإذا علم أنه مستحق) بإحدى الصفات علما (قطعا) لا شبهة فيه، (كما إذا حصل عليه دين) استدانه لمهم خير و (صرفه إلى خير) لا إلى معصية، (وليس له وجه في قضائه، فهو مستحق قطعا، فإذا خير هذا) وأمثاله (بين) أخذ (الزكاة وبين) أخذ (الصدقة) فينظر؛ (فإذا كان [ ص: 185 ] صاحب الصدقة لا يتصدق بذلك المال لو لم يأخذ هو) وعلم ذلك منه بالقرينة الصارفة إليه، (فليأخذ الصدقة) بلا حرج، (فإن الزكاة الواجبة يصرفها صاحبها إلى مستحقها) من الأصناف الثمانية، (ففي ذلك تكثير للخير) وإعانة للمعطي عليه (وتوسيع للمساكين) أي: لا تقع المزاحمة حينئذ، (وإن كان المال) المعطى (معرضا للصدقة) أي: على سبيلها ولا بد من إخراجها، (ولم يكن في أخذ الزكاة تضييق على المساكين) ولا مزاحمة (فهو) أي: الآخذ (مخير) إن شاء أخذ منها وإن شاء منه، (والأمر فيهما يتفاوت) بتفاوت الأحوال والأشخاص والأوقات، (وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس) عن شهواتها ومعانيها الخبيثة، (و) أقوى في (إذلالها في أغلب الأحوال) . ونقل هذا السياق النووي عن المصنف في آخر كتاب الزكاة من الروضة مختصرا، وأما صاحب القوت فإنه بعدما نقل مذهب الفريقين قال: والأمر في ذلك عندي أن من لم يأخذ من كل إنسان ولا في كل أوان ولم يقبلها إلا عند الحاجة وما لا بد له منه، ثم قام بحكم الله تعالى في الواجب، حكمه في التطوع أن الحالين يتقاربان؛ لأن الواجب أمر الله تبارك وتعالى فيه حكم والتطوع ندب، وله عز وجل فيه حكم، فعلى العبد أن ينظر لدينه ويحتاط لأخيه فيعمل بما يوجب الوقت من الحكم من أيهما كان، فسواء ذلك، ولا ينظر بظلمة النفس في هوى الحظ، ففي ذلك سلامته، والله أعلم ا ه .

وبه تم ما أوردناه من شرح كتاب أسرار الزكاة للإمام أبي حامد الغزالي -قدس سره- بحمد الله تعالى وحسن توفيقه وعونه ومدده، والحمد لله الذي تتم به الصالحات، وذلك عند أذان ظهر يوم الاثنين لأربع مضين من صفر الخير سنة 1198. قاله العبد المقصر أبو الفيض محمد مرتضى الحسيني وفقه الله لما يحبه ويرضاه، حامدا لله ومصليا ومسلما على نبيه ومستغفرا ومحسبلا، بلغ مراجعة في غرة ربيع الثاني سنة 1198، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .




الخدمات العلمية