الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفائدة العاشرة أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين ، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته ، كما ورد به الخبر فما يأكله كان خزانته الكنيف وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى ، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى ، أو أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع ، وكان الحسن رحمه الله عليه إذا تلا قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا قال : عرضها على السماوات السبع الطباق والطرائق ، التي زينها بالنجوم ، وحملة العرش العظيم ، فقال لها سبحانه وتعالى : هل تحملين الأمانة بما فيها ? قالت : وما فيها ? قال : إن أحسنت جوزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فقالت : لا . ثم عرضها كذلك على الأرض فأبت ، ثم عرضها على الجبال الشوامخ الصلاب الصعاب ، فقال لها : هل تحملين الأمانة بما فيها ? قالت : وما فيها ? فذكر الجزاء والعقوبة ، فقالت : لا . ثم عرضها على الإنسان فحملها ؛ إنه كان ظلوما لنفسه ، جهولا بأمر ربه ، فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم ، فأصابوا آلافا ، فماذا صنعوا فيها ? وسعوا بها دورهم ، وضيقوا بها قبورهم وأسمنوا ، براذينهم وأهزلوا دينهم ، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى باب السلطان يتعرضون للبلاء وهم من الله في عافية ، يقول أحدهم تبيعني أرض : كذا وكذا وأزيدك كذا ، وكذا يتكئ ، على شماله ويأكل من غير ماله حديثه سخرة وماله حرام ، حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال : يا غلام ، ائتني بشيء أهضم به طعامي يا لكع أطعامك تهضم ? إنما تهضم دينك أين الفقير ? أين الأرملة ? أين المسكين ? أين اليتيم الذي أمرك الله تعالى بهم فهذه ؟ إشارة إلى هذه الفائدة وهو صرف ، فاضل الطعام إلى الفقير ليدخر به الأجر ، فذلك خير له من أن يأكله حتى يتضاعف الوزر عليه ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل سمين البطن فأومأ إلى بطنه بإصبعه وقال : لو كان هذا في غير هذا ، لكان خيرا لك . أي : لو قدمته لآخرتك وآثرت به غيرك وعن الحسن قال : والله لقد أدركت أقواما كان الرجل منهم يمسي وعنده من الطعام ما يكفيه ، ولو شاء لأكله ، فيقول : والله لا أجعل هذا كله لبطني حتى أجعل بعضه لله .

فهذه عشرة فوائد للجوع يتشعب ، من كل فائدة فوائد لا ينحصر عددها ، ولا تتناهى فوائدها فالجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة ولأجل هذا قال بعض السلف : الجوع مفتاح الآخرة ، وباب الزهد ، والشبع مفتاح الدنيا ، وباب الرغبة بل ذلك صريح في الأخبار التي رويناها بالوقوف ، على تفصيل هذه الفوائد تدرك معاني تلك الأخبار إدراك علم وبصيرة ، فإذا لم تعرف هذا وصدقت بفضل الجوع كانت ، لك رتبة المقلدين في الإيمان ، والله أعلم بالصواب .

.

التالي السابق


( الفائدة العاشرة أن يتمكن المريد من الإيثار ) على إخوانه بما فضل من المال، (والصدقة بما فضل) من الأطعمة (على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته، كما ورد الخبر به) ، وهو ما رواه الحاكم من حديث عقبة بن عمرو : "وكل امرئ في ظل صدقته" ، وقد تقدم في كتاب الزكاة. (وما يأكله [ ص: 402 ] فخزانته الكنيف) أي: بيت الماء، (وما يتصدق به فخزانته فضل الله تعالى، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى، أو أكل فأفنى، أو لبس فأبلى) .

وروى أحمد وعبد بن حميد ومسلم من حديث أبي هريرة : "يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس" .

وروى ابن المبارك والطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد ، ومسلم والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان من حديث ابن الشخير : "يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" .

(فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع، وكان الحسن) البصري (رحمه الله تعالى إذا تلا قوله تعالى) -وهما الآيتان من آخر سورة الأحزاب، ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) إلى آخر السورة، (قال: عرضها الله على السموات السبع الطباق، و) السبع (الطرائق التي زينها بالنجوم، وحملة العرش العظيم، فقال لها سبحانه وتعالى: هل تحملين هذه الأمانة بما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت، فقالت: لا. ثم عرضها على الأرض كذلك فأبت، ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ) ، أي: المرتفعة إلى السماء، (الصلاب الصعاب، فقال لها: هل تحملين الأمانة بما فيها؟ قالت: وما فيها؟ فذكر الجزاء والعقوبة على الإحسان والإساءة، فقالت: لا. ثم عرضها على الإنسان) ، المراد به آدم عليه السلام، (فحملها؛ إنه كان ظلوما لنفسه، جهولا بأمر ربه، فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم، فأصابوا آلافا، فماذا صنعوا فيها؟ وسعوا بها دورهم، وضيقوا بها قبورهم، وسمنوا براذينهم) ، وهي خيل الروم ، (وأهزلوا دينهم، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى باب السلطان) ، يتعرضون بالبلاء; لأن أبواب السلطان فيها فتن كمبارك الإبل، كما ورد في الخبر، (وهم من الله في عافية، يقول أحدهم: ابغوني كذا وكذا، وائتوني بكذا وكذا، يتكئ على شماله ويأكل من غير ماله) من غضب وظلم، (خدمته) الذين يحفون به (مسخرة) ، أي: أذلاء، (وماله) الذي جمعه (حرام، حتى إذا أخذته الكظة) ، وهو بالكسر ثقل المعدة بالطعام، (ونزلت به البطنة) وهي التخمة، (قال: يا غلام، ائتني بشيء يهضم طعامي) ، ثم خاطبه وقال: (يا لكع) أي: يا أحمق، (أطعامك تهضم؟) أي: الذي تريد هضمه هو طعامك؟ (إنما دينك تهضم) ، أي: بل تهضم دينك، (أين الفقير؟ أين الأرملة؟) هي المنقطعة التي مات أهلها، (أين المسكين؟ أين اليتيم الذي أمرك الله بهم؟ وهذه إشارة إلى هذه الفائدة، وهي أن ما يصرف من فاضل الطعام إلى الفقير ليدخر به، فذلك خير له من أن يأكله حتى يتضاعف الوزر عليه) ، فإن الحسن رحمه الله تعالى في آخر كلامه حذر وأنذر عن ترك إطعام الفقراء والمساكين، وأما ما سبق من تفسيره للآية، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس نحوه، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن جريج نحوه. وأخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه .

وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه .

(ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سمين البطن فأومأ) أي: أشار (إلى بطنه بأصبعه وقال: لو كان هذا في غير هذا، لكان خيرا لك. أي: لو قدمته لآخرتك وآثرت به غيرك) ، قال العراقي : رواه أحمد والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب من حديث جعدة الجشمي ، وإسناده جيد. اهـ .

قلت: هو جعدة بن خالد بن الصمة الجشمي ، وسماه ابن قانع جعدة بن معاوية ، حديثه في الجعديات، ورواه أيضا الطيالسي ، وأبو يعلى ، والباوردي والضياء ، بلفظ: "فطعن بطنه بأصبعه وقال: لو كان بعض هذا في غير هذا لكان خيرا لك" . (وعن الحسن) البصري رحمه الله تعالى (قال: والله لقد [ ص: 403 ] أدركت أقواما إن كان الرجل منهم ليمشي وعنده من الطعام ما يكفيه، ولو شاء لأكله، فيقول: والله لا أجعل هذا كله لبطني حتى أجعل بعضه لله ) فيتصدق منه، (فهذه عشر فوائد للجوع، تتشعب من كل فائدة فوائد لا ينحصر عددها، ولا تتناهى فوائدها) لكثرتها، (فالجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة) تجمعها، (ولأجل هذا قال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة، وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا، وباب الرغبة) قال القشيري في الرسالة: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت علي بن إبراهيم القاضي بدمشق يقول: سمعت محمد بن علي بن خلف يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا عثمان الداراني يقول: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع. اهـ. وأما قوله: الجوع باب الزهد، والشبع باب الرغبة ، فقد ذكره صاحب القوت في أثناء كلام، (بل ذلك صريح في الأخبار التي رويناها، وبالوقوف على تفصيل هذه الفوائد تدرك معاني تلك الأخبار إدراك علم وبصيرة، وترتقي من رتبة إدراك الإيمان، فإذا لم تعرف هذا وصدقت بفضل الجوع، كان لك مرتبة المقلدين في الإيمان، والله أعلم) .




الخدمات العلمية