الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي في هذه السنة :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      جعفر المرتعش أبو محمد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحد مشايخ الصوفية ، كذا ذكره الخطيب ، [ ص: 118 ] وقال أبو عبد الرحمن السلمي : اسمه عبد الله بن محمد ، أبو محمد النيسابوري كان من ذوي الأموال ، فتخلى عنها ، وصحب الجنيد وأبا حفص وأبا عثمان ، وأقام ببغداد حتى صار شيخ الصوفية ، فكان يقال : عجائب بغداد ثلاث : إشارات الشبلي ، ونكت المرتعش ، وحكايات جعفر الخواص

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سمعت أبا الفرج الصائغ يقول : قال المرتعش : من ظن أن أفعاله تنجيه من النار أو تبلغه الرضوان ، فقد جعل لنفسه ولفعله خطرا ، ومن اعتمد على فضل الله بلغه الله أقصى منازل الرضوان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقيل للمرتعش : إن فلانا يمشي على الماء . فقال : إن مخالفة الهوى أعظم من المشي على الماء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما حضرته الوفاة وهو بمسجد الشونيزية ، حسبوا ما عليه من الدين ، فإذا عليه سبعة عشر درهما ، فقال : بيعوا خريقاتي هذه واقضوا بها ديني ، وأرجو أن يرزقني الله كفنا ، وقد سألت الله ثلاثا ; سألته أن يميتني وأنا فقير ، وأن يجعل وفاتي في هذا المسجد ، فإني صحبت فيه أقواما ، وأن يجعل عندي من آنس به وأحبه . ثم غمض عينيه ومات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو سعيد الإصطخري ، الحسن بن أحمد بن يزيد بن عيسى بن الفضل بن بشار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو سعيد الإصطخري
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ، أحد أئمة الشافعية ، وكان زاهدا [ ص: 119 ] ورعا ناسكا عابدا ، ولي القضاء بقم ، ثم حسبة بغداد فكان يدور بها ويصلي على بغلته وهو سائر بين الأزقة ، وكان متقللا جدا . وقد ذكرنا ترجمته في " طبقات الشافعية " بما فيه كفاية ، وله كتاب " القضاء " لم يصنف مثله في بابه . توفي وقد قارب التسعين ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      علي بن محمد ، أبو الحسن المزين الصغير

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحد مشايخ الصوفية ، أصله من بغداد وصحب الجنيد وسهلا التستري ، وجاور بمكة حتى توفي بها في هذه السنة ، وقال ، ويحكي عن نفسه : وردت بئرا في أرض تبوك فلما دنوت منها زلقت فسقطت في البئر ، وليس أحد يراني ، فلما كنت في أسفله إذا فيها مصطبة فعلوتها ، وقلت : إن مت لا أفسد على الناس الماء ، وسكنت نفسي وطابت للموت ، فبينا أنا كذلك إذا أفعى قد تدلت علي فلفت علي ذنبها ، ثم رفعتني حتى أخرجتني إلى وجه الأرض ، وانسابت فلم أدر أين ذهبت ، ولا من أين جاءت .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي مشايخ الصوفية آخر يقال له : أبو جعفر المزين الكبير ، جاور بمكة ، ومات بها أيضا ، وكان من العباد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 120 ] روى الخطيب عن علي بن أبي علي ، عن إبراهيم بن محمد الطبري ، عن جعفر الخلدي ، قال : ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير ، فقلت له : زودني . فقال لي : إذا فقدت شيئا ، فقل : يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، إن الله لا يخلف الميعاد ، اجمع بيني وبين كذا . فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء ، قال : فجئت إلى الكتاني ، فودعته ، وسألته أن يزودني ، فأعطاني خاتما على فصه نقش ، فقال : إذا اغتممت فانظر إلى هذا الفص يزل غمك ، قال : فكنت لا أدعو بذلك الدعاء إلا استجيب لي ولا أنظر إلى ذلك الفص إلا زال عني ما أجده ، فبينا أنا ذات يوم في سميرية إذ هبت ريح شديدة ، فأخرجت الخاتم لأنظر إليه ، فلم أدر كيف ذهب ، فجعلت أدعو بذلك الدعاء يومي كله ، فلما رجعت إلى المنزل ، فتشت المتاع الذي في المنزل ، فإذا الخاتم في بعض ثيابي التي كانت بالمنزل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب كتاب " العقد الفريد " أحمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم ، أبو عمر القرطبي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مولى هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي ، كان من الفضلاء المكثرين ، والعلماء بأخبار الأولين والمتأخرين ، وكتابه " العقد " يدل على فضائل جمة ، [ ص: 121 ] وعلوم كثيرة مهمة ، ولكنه يدل كثير من كلامه على تشيع فيه ، وميل إلى الحط على بني أمية ، وهذا عجيب منه ; لأنه أحد مواليهم ، وكان الأولى به أن يكون ممن يواليهم لا ممن يعاديهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي ابن خلكان : وله ديوان شعر حسن . ثم أورد منه أشعارا في التغزل في المردان والنسوان أيضا ، وكان مولده في رمضان سنة ست وأربعين ومائتين ، وتوفي بقرطبة يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم ، أبو الحسين الأزدي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الفقيه المالكي القاضي ابن القاضي ، ناب عن أبيه وعمره عشرون سنة ، وكان حافظا للقرآن والحديث والفقه على مذهب مالك ، والفرائض والحساب واللغة والنحو والشعر . وصنف مسندا ، ورزق قوة الفهم وجودة القريحة ، وشرف الأخلاق ، وله الشعر الرائق الحسن ، وكان مشكور السيرة في القضاء ، عدلا ثقة إماما .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب : أخبرنا أبو الطيب الطبري : سمعت المعافى بن زكريا الجريري يقول : كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسين ، فجئنا يوما ننتظره على العادة ، فجلسنا عند بابه ، وإذا أعرابي جالس كأن له حاجة ، إذ وقع غراب على نخلة في الدار ، فصرخ ثم طار . فقال الأعرابي : هذا الغراب يقول إن [ ص: 122 ] صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام . قال : فزبرناه ، فقام وانصرف ، ثم خرج الإذن من القاضي إلينا أن هلموا فادخلوا ، فدخلنا ، فإذا به متغير اللون مغتم ، فقلنا : ما الخبر ؟ فقال : إني رأيت البارحة في المنام شخصا يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      منازل آل حماد بن زيد على أهليك والنعم السلام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ضاق لذلك صدري . قال : فدعونا له وانصرفنا . فلما كان اليوم السابع من ذلك اليوم دفن .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كانت وفاته ليوم الخميس لسبع عشرة مضت من شعبان من هذه السنة ، وله من العمر تسع وثلاثون سنة ، وصلى عليه ابنه أبو نصر ، وولي بعده القضاء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الصولي : بلغ القاضي أبو الحسين من العلم مبلغا عظيما مع حداثة السن ، وحين توفي كان الراضي يبكي عليه بحضرتنا ويقول : كنت أضيق بالشيء ذرعا فيوسعه علي . ثم يقول : والله لا بقيت بعده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ابن شنبوذ المقرئ ، محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت ، أبو الحسن المقرئ

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      المعروف بابن شنبوذ
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ، روى عن أبي مسلم الكجي ، وبشر بن موسى وخلق ، وكان يختار حروفا أنكرها أهل زمانه عليه ، وصنف أبو بكر بن [ ص: 123 ] الأنباري كتابا في الرد عليه ، وقد ذكرنا فيما تقدم ، كيف أنه عقد له مجلس في دار الوزير أبي علي محمد بن علي بن مقلة ، وأنه ضرب حتى رجع عن كثير من القراءات الشاذة التي أنكرها القراء من أهل عصره عليه . وكانت وفاته في صفر منها ، وقد دعا ابن شنبوذ على ابن مقلة حين أمر بضربه ، فلم يفلح ابن مقلة بعدها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير ، محمد بن علي بن الحسن بن عبد الله أبو علي ، المعروف بابن مقلة الوزير

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان في أول عمره ضعيف الحال ، ثم آل به الحال إلى أن ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء ، وهم المقتدر ، والقاهر ، والراضي ، وعزل ثلاث مرات ، وقطعت يده ولسانه في آخر أمره وحبس ، فكان يستقي الماء بيده اليسرى وأسنانه ، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى بعد قطعها ، كما كان يكتب وهي صحيحة ، وقد كان خطه من أقوى الخطوط ، كما هو مشهور عنه ، وقد بنى له دارا في زمان وزارته ، فجمع عند بنائها خلقا من المنجمين ، فاتفقوا على أن تبنى في الوقت الفلاني ، فأسس جدرانها بين العشاءين ، كما أشاروا ، فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرا حتى خربت وصارت كوما ، كما ذكرنا ذلك وذكرنا ما كتبوا على جدرانها ، وقد [ ص: 124 ] كان له بستان كبير جدا ، فيه عدة أجربة - أي فدادين - وعليه جميعه شبكة من إبريسم ، وفيه من الطيور القماري والهزار والببغ والبلابل والطواويس والقبج شيء كثير ، وفي أرضه من الغزلان ، وبقر الوحش وحميره ، والنعام والإبل شيء كثير أيضا . ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهاء إلى الهلاك والفناء . وقد أنشد فيه بعض الشعراء حين بنى داره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا     واصبر فإنك في أضغاث أحلام
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تبني بأنقاض دور الناس مجتهدا     دارا ستنقض أيضا بعد أيام
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما زلت تختار سعد المشتري لها     فلم توق به من نحس بهرام
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن القران وبطليموس ما اجتمعا     في حال نقض ولا في حال إبرام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فعزل ابن مقلة عن وزارته ، وخربت داره ، وأتلفت أشجاره ، وقطعت يده ، ثم قطع لسانه ، وأغرم بألف ألف دينار ، ثم سجن وحده ، مع الكبر والضعف والضرورة ، فكان يستقي الماء لنفسه من بئر عميق ، فكان يمد الحبل بيده اليسرى ، ويمسكه بفيه . وقاسى جهدا جهيدا ، بعدما ذاق عيشا رغيدا ، ومن شعره حين قطعت يده :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما سئمت الحياة لكن توثقت     بأيمانهم فبانت يميني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بعت ديني لهم بدنياي حتى     حرموني دنياهم بعد ديني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 125 ] ولقد حطت ما استطعت بجهدي     حفظ أرواحهم فما حفظوني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ليس بعد اليمين لذة عيش     يا حياتي بانت يميني فبيني

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يبكي على يده كثيرا ، ويقول : بعدما خدمت بها ثلاثة من الخلفاء ، وكتبت بها القرآن مرتين ، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ! ثم ينشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا ما مات بعضك فابك بعضا     فإن البعض من بعض قريب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد مات - رحمه الله - في محبسه هذا ، ودفن في دار السلطان ، ثم سأل ولده أبو الحسين أن يحول فأجيب ، فنبشوه ودفنه ولده عنده في داره ، ثم سألت زوجته المعروفة بالدينارية أن يدفن في دارها ، فنبش ودفن عندها ، فهذه ثلاث مرات أيضا . مات - رحمه الله - وله من العمر ست وخمسون سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو بكر بن الأنباري محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة أبو بكر الأنباري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب كتاب " الوقف والابتداء " وغير ذلك من المصنفات ، وكان من بحور العلم في اللغة والعربية وغير ذلك . سمع الكديمي وإسماعيل القاضي وثعلبا وغيرهم ، وكان ثقة صدوقا أديبا ، دينا فاضلا ، من أهل السنة ، من أعلم الناس بالنحو والأدب وأكثرهم حفظا له ، وكانت له من المحافيظ مجلدات عظيمة كثيرة [ ص: 126 ] أحمال أجمال ، وكان لا يأكل إلا التقالي ، ولا يشرب ماء إلى قريب العصر ; مراعاة لحفظه ، ويقال : إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا . وحفظ تعبير الرؤيا في ليلة ، وكان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة . وكانت وفاته ليلة عيد النحر من هذه السنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أم عيسى بنت إبراهيم الحربي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كانت عالمة فاضلة ، تفتي في الفقه . توفيت في رجب منها ، ودفنت إلى جانب أبيها ، رحمهما الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية