الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      المتنبي الشاعر المشهور أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الشاعر المعروف بالمتنبي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ، كان أبوه يعرف بعيدان السقاء ، [ ص: 273 ] وكان يستقي الماء لأهل الكوفة على بعير له وهو شيخ كبير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعيدان هذا ، قال ابن ماكولا والخطيب : هو بكسر العين وبعدها ياء مثناة من تحت . وقيل : بفتح العين لا كسرها . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كان مولد المتنبي بالكوفة سنة ست وثلاثمائة ، ونشأ بالشام بالبادية ، وطلب الأدب ، ففاق أهل زمانه فيه ، ولزم جناب سيف الدولة بن حمدان وامتدحه وحظي عنده ، ثم صار إلى مصر ، فامتدح كافورا الإخشيدي ثم هجاه ، وهرب منه ، وورد بغداد فامتدح بعض أهلها ، وقرئ عليه ديوانه فيها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقدم الكوفة فامتدح ابن العميد ، فوصله من جهته ثلاثون ألف دينار ، ثم سار إلى فارس فامتدح عضد الدولة بن بويه ، فأطلق له أموالا جزيلة تقارب مائتي ألف درهم ، وقيل : بل حصل له نحو من ثلاثين ألف دينار ، ثم دس إليه من يسأله : أيما أحسن ; عطايا عضد الدولة بن بويه ، أو عطايا سيف الدولة بن حمدان ؟ فقال : هذه أجزل ولكن فيها تكلف ، وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها ; لأنها عن طبيعة وهذه عن تكلف . فذكر ذلك لعضد الدولة ، فتغيظ عليه ، ودس إليه طائفة من الأعراب ، فوقفوا له في أثناء الطريق وهو راجع إلى بغداد ويقال : إنه قد كان هجا مقدمهم ابن فاتك الأسدي - وقد كانوا يقطعون الطريق - فلهذا أوعز إليهم عضد الدولة أن يتعرضوا له فيقتلوه ، ويأخذوا ما معه من الأموال ، فانتهوا إليه وهم ستون راكبا في يوم [ ص: 274 ] الأربعاء وقد بقي من رمضان ثلاثة أيام ، وقيل : بل قتل في يوم الاثنين لخمس بقين من رمضان . ويقال : بل كان ذلك في شعبان . وقد نزل عند عين تحت شجرة إنجاص ، وقد وضعت سفرته ليتغدى ومعه ولده محسد وخمسة عشر غلاما له ، فلما رآهم قال : هلموا يا وجوه العرب . فلما لم يكلموه أحس بالشر ، فنهض إلى سلاحه وخيله ، فتواقفوا ساعة ، فقتل ابنه محسد وبعض غلمانه ، وأراد هو أن ينهزم ، فقال له مولى له : أين تذهب ، وأنت القائل :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فالخيل والليل والبيداء تعرفني والحرب والضرب والقرطاس والقلم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال : ويحك ! قتلتني . ثم كر راجعا ، فطعن زعيم القوم برمح في عنقه فقتله ، فاجتمعوا عليه فشجروه بالرماح حتى قتلوه ، وأخذوا جميع ما كان معه من الأموال ، وذلك بالقرب من النعمانية ، وهو آيب إلى بغداد ودفن هنالك ، وله من العمر ثمان وأربعون سنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن عساكر أنه لما نزل في المنزلة التي كانت قبل منزلته هذه ; سأله بعض الأعراب أن يعطيهم خمسين درهما ويخفرونه ، فمنعه الشح والكبر [ ص: 275 ] ودعوى الشجاعة من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان المتنبي جعفي النسب ، صلبه منهم ، وقد ادعى حين كان مع بني كلب بأرض السماوة قريبا من حمص أنه علوي ثم حسني ، ثم ادعى أنه نبي ، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم ، وزعم أنه أنزل عليه قرآن ، فمن ذلك : والنجم السيار ، والفلك الدوار ، والليل والنهار ، إن الكافر لفي أخطار ، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين ، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه ، وضل عن سبيله . وهذا من خذلانه ، وكثرة هذيانه في قرآنه ، ولو لزم قافية مدحه ، والهجاء لكان أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء ، ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب الأرض والسماء ، الذي لا يشبهه شيء من الأشياء ، لا في ذاته ولا في صفاته ، ولا في أفعاله وأحواله ، تعالى الله خالق الأشياء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما اشتهر خبره بأرض السماوة ، وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة ، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الإخشيد وهو الأمير لؤلؤ - بيض الله وجهه - فقاتله وشرد شمله ، وأسره وسجنه دهرا طويلا ، فمرض في السجن ، وأشرف على التلف ، فاستحضره واستتابه ، وكتب عليه كتابا اعترف فيه ببطلان [ ص: 276 ] ما ادعاه ، وأنه قد تاب من ذلك ، ورجع إلى دين الإسلام ، وأطلق سراحه ، فكان بعد ذلك إذا ذكر بهذا يجحده إن أمكنه جحده وإلا اعتذر منه واستحيا ، وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الإفك والبهتان ، وهي لفظة " المتنبي " الدالة على الكذب ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال بعضهم يهجوه :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أي فضل لشاعر يطلب الفض     ل من الناس بكرة وعشيا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عاش حينا يبيع في الكوفة الما     ء وحينا يبيع ماء المحيا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وللمتنبي ديوان مشهور في الشعر ، فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة ، بل مبتكرة سابقة ، وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في الشعراء المتقدمين - وهو عندي بخط يده - فيما ذكر من له خبرة بهذه الأشياء ، مع تقدم أمره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في " منتظمه " قطعا رائقة استحسنها من ديوانه ، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر شيخ إقليمه وحافظ زمانه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فمما استملحه أستاذ الوعاظ الشيخ أبو الفرج بن الجوزي قول المتنبي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عزيز أسى من داؤه الحدق النجل     عياء به مات المحبون من قبل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فمن شاء فلينظر إلي فمنظري     نذير إلى من ظن أن الهوى سهل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 277 ] جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي     فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن جسدي لم يترك السقم شعرة     فما فوقها إلا وفيه له فعل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأن رقيبا منك سد مسامعي     عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كأن سهاد الليل يعشق مقلتي     فبينهما في كل هجر لنا وصل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كشفت ثلاث ذوائب من شعرها     في ليلة فأرت ليالي أربعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واستقبلت قمر السماء بوجهها     فأرتني القمرين في وقت معا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما نال أهل الجاهلية كلهم     شعري ولا سمعت بسحري بابل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإذا أتتك مذمتي من ناقص     فهي الشهادة لي بأني فاضل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من لي بفهم أهيل عصر يدعي     أن يحسب الهندي منهم باقل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى     عدوا له ما من صداقته بد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 278 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإذا كانت النفوس كبارا     تعبت في مرادها الأجسام

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت     على عينه حتى يرى صدقها كذبا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به     في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله في مدح بعض الملوك الذين كانوا يستمنح منهم العطاء :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تمضي المواكب والأبصار شاخصة     منها إلى الملك الميمون طائره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قد حرن في بشر في تاجه قمر     في درعه أسد تدمى أظافره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حلو خلائقه شوس حقائقه     يحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومنها قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا من ألوذ به فيما أؤمله     ومن أعوذ به مما أحاذره
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا يجبر الناس عظما أنت كاسره     ولا يهيضون عظما أنت جابره

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد بلغني عن شيخنا العلامة أبي العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله - أنه [ ص: 279 ] كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة ، ويقول : إنما يصلح هذا لجناب الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم - رحمه الله - أنه سمع الشيخ يقول : ربما قلت هذين البيتين في السجود .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومما أورده الحافظ أبو القاسم بن عساكر من شعر المتنبي في ترجمته قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبعين مفتقر إليك رأيتني     فهجرتني ونزلت بي من حالق
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لست الملوم أنا الملوم لأنني     أنزلت حاجاتي بغير الخالق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي ابن خلكان : وهذان البيتان ليسا في ديوانه ، وقد عزاهما الحافظ الكندي إليه بسند صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا غامرت في شرف مروم     فلا تقنع بما دون النجوم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 280 ] فطعم الموت في أمر حقير     كطعم الموت في أمر عظيم

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما أنا بالباغي على الحب رشوة     قبيح هوى يرجى عليه ثواب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا نلت منك الود فالمال هين     وكل الذي فوق التراب تراب

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم أنه ولد بالكوفة سنة ست وثلاثمائة ، وأنه قتل في رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : وقد فارق سيف الدولة بن حمدان سنة ست وأربعين ; لما كان من ابن خالويه ما كان من ضربه إياه بمفتاح في وجهه فأدماه ، فصار إلى مصر ، فامتدح كافورا الإخشيدي ، وأقام عنده أربع سنين ، وكان المتنبي يركب في جماعة من مماليكه ، فتوهم منه كافور فجأة ، فخاف منه المتنبي فهرب ، فأرسل في إثره فأعجزه ، فقيل لكافور : ما قيمة هذا حتى تتوهم منه ؟ فقال : هذا رجل أراد أن يكون نبيا بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، أفلا يروم أن يكون ملكا بديار مصر ؟

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم صار المتنبي إلى عضد الدولة ، فامتدحه فأعطاه مالا كثيرا ، ثم رجع من عنده ، فعرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي ، فقتله وابنه محسدا وغلامه [ ص: 281 ] مفلحا يوم الأربعاء لست بقين من رمضان ، وقيل : لليلتين بقيتا من رمضان . وقيل : يوم الاثنين لثمان - وقيل : لخمس - بقين منه . وذلك بسواد بغداد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رثاه الشعراء ، وقد شرح ديوانه العلماء بالشعر واللغة نحوا من ستين شرحا وجيزا وبسيطا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية