الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ابتداء ملك سبكتكين ، والد محمود صاحب غزنة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان سبكتكين مولى للأمير أبي إسحاق بن ألبتكين صاحب جيش غزنة وأعمالها للسامانية ، وليس هذا بحاجب معز الدولة ذاك ، توفي قبل هذه السنة كما تقدم ، وأما هذا فإنه لما مات مولاه لم يترك أحدا يصلح للملك من بعده لا من ولده ولا من قومه ، فاصطلح الجيش على مبايعة سبكتكين هذا ; لخيره فيهم ، وحسن سيرته ، وكمال عقله ، وشجاعته ، وديانته ، فاستقر الملك بيده ، واستمر من بعده في ولده السعيد محمود بن سبكتكين ، وقد غزا سبكتكين هذا [ ص: 373 ] بلاد الهند ، ففتح شيئا كثيرا من حصونهم ، وغنم شيئا كثيرا وكسر من أصنامهم ونذورهم أمرا هائلا وباشر من معه من الجيوش حروبا تشيب الولدان ، وقد قصده جيبال ملك الهند بنفسه وجنوده التي تعم السهول والجبال ، فكسره مرتين ، وردهم إلى بلادهم في أسوإ حال وأردإ بال .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن الأثير في كامله أن سبكتكين لما التقى مع جيبال ملك الهند في بعض الغزوات كان بالقرب منهم عين في عقبة غورك ، من عادتهم أنه إذا وضعت فيها نجاسة أو قذر ، اكفهرت السماء وأرعدت وأبرقت وأمطرت ، ولا تزال كذلك حتى تطهر تلك العين من ذلك الشيء الذي ألقي فيها ، وأن سبكتكين أمر بإلقاء نجاسة في تلك العين عند ذلك - وكانت قريبة من نحر العدو - فلم يزالوا في رعود وبروق وأمطار وصواعق حتى ألجأهم ذلك الحال إلى الهرب والرجوع إلى بلادهم خائبين هاربين ، وأرسل ملك الهند يطلب من سبكتكين الصلح ، فأجابه بعد امتناع من ولده محمود ، على مال جزيل يحمله إليه ، وبلاد كثيرة يسلمها إليه ، وخمسين فيلا ورهائن من رءوس قومه يتركها عنده حتى يقوم بما التزم له من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي أبو يعقوب يوسف بن الحسن الجنابي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صاحب هجر [ ص: 374 ] ومقدم القرامطة ، وقام بالأمر من بعده ستة من قومه ، وكانوا يسمون بالسادة ، وقد اتفقوا على تدبير الأمر من بعده ، ولم يختلفوا ، فمشى حالهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها كانت وفاة :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنابي ، أبو محمد القرمطي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عساكر : واسم أبي سعيد الحسن بن بهرام ، ويقال : الحسن بن أحمد بن الحسن بن يوسف بن كوذكار . يقال : أصله من الفرس . قال : ويعرف أبو محمد هذا بالأعصم . قال : وولد بالأحساء في سنة ثمان وسبعين ومائتين ، وقد تغلب على الشام في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ، ثم عاد إلى الأحساء بعد سنة ، ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين ، وكسر جيش جعفر بن فلاح أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي وقتله ، ثم توجه إلى مصر ، فحاصرها في مستهل ربيع الأول من سنة إحدى وستين ، واستمر محاصرها شهورا ، وقد كان استخلف على دمشق ظالم بن موهوب العقيلي ، [ ص: 375 ] ثم عاد إلى الأحساء ثم رجع إلى الرملة فتوفي بها في هذه السنة ، وقد قارب التسعين ، وهو يظهر طاعة عبد الكريم الطائع لله بن المطيع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد أورد له ابن عساكر أشعارا حسنة رائقة فائقة ، من ذلك ما كتب به إلى جعفر بن فلاح قبل الحرب بينهما :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الكتب معذرة والرسل مخبرة والحق متبع والخير موجود     والحرب ساكنة والخيل صافنة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والسلم مبتذل والظل ممدود     فإن أنبتم فمقبول إنابتكم
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإن أبيتم فهذا الكور مشدود     على ظهور المطايا أو تردن بنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      دمشق والباب مهدوم ومردود     إني امرؤ ليس من شأني ولا أربي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      طبل يرن ولا ناي ولا عود     ولا اعتكاف على خمر ومجمرة
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذات دل لها دل وتفنيد     ولا أبيت بطين البطن من شبع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولي رفيق خميص البطن مجهود     ولا تسامت بي الدنيا إلى طمع
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يوما ولا غرني فيها المواعيد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن شعره أيضا :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 376 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا ساكن البلد المنيف تعززا     بقلاعه وحصونه وكهوفه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا عز إلا للعزيز بنفسه     وبخيله وبرجله وسيوفه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وبقبة بيضاء قد ضربت على     شرف الخيام بجاره وحليفه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قوم إذا اشتد الوغى أردى العدا     وشفى النفوس بضربه ووقوفه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لم يرض بالشرف التليد لنفسه     حتى أشاد تليده بطريفه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها تملك قابوس بن وشمكير بلاد جرجان وطبرستان وتلك النواحي .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها دخل الخليفة الطائع بشاه ناز بنت عز الدولة بن بويه ، وكان عرسا حافلا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة حجت جميلة بنت ناصر الدولة بن حمدان في تجمل عظيم ، كان يضرب المثل بحجها ، وذلك أنها عملت أربعمائة محمل ، فلا يدرى في أيها هي ، ولما وصلت إلى الكعبة ، نثرت عليها عشرة آلاف دينار ، وكست المجاورين بالحرمين كلهم ، وأنفقت أموالا جزيلة في ذهابها وإيابها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحج بالناس من العراق الشريف أبو عبد الله أحمد بن أبي الحسين بن محمد بن عبد الله العلوي ، وكذلك حج بالناس إلى سنة ثمانين وثلاثمائة ، [ ص: 377 ] وكانت الخطبة في هذه السنة بالحرمين للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية