الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 106 ] ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها استولت التتار على كثير من البلدان كمراغة وهمذان وأردبيل وتبريز وكنجة ، وقتلوا أهاليها ، ونهبوا ما فيها ، واستأسروا ذراريها ، واقتربوا من بغداد ، فانزعج الخليفة من ذلك ، وحصن بغداد ، واستخدم الأجناد ، وقنت الناس في الصلوات والأوراد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها قهروا الكرج واللان ، ثم قاتلوا القفجاق ، فكسروهم ، وكذلك الروس ، وينهبون ما قدروا عليه من أموال هؤلاء ، ويسبون ذراريهم ونساءهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها سار المعظم إلى أخيه الأشرف ، فاستعطفه على أخيه الكامل ، وكان في نفسه موجدة عليه ، فأزالها وسارا جميعا نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط ، واستحكم أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة ، وعرض عليهم في بعض الأوقات أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ، ويتركوا دمياط ، فامتنعوا من ذلك ، [ ص: 107 ] ولم يفعلوا ، فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الأقوات ، فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم ، فأخذها الأسطول البحري ، وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية ، فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في أنفسهم ، وحصرهم المسلمون من الجهة الأخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن ، فعند ذلك أثابوا إلى المصالحة بلا معاوضة ، فجاء مقدموهم إليه ، وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الأشرف ، وكانا قائمين بين يديه ، وكان يوما مشهودا وأمرا محمودا ، فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد ، بيض الله وجهه ، وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بحضرته ، ومد سماطا عظيما ، فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر ، وقام راجح الحلي الشاعر فأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هنيئا فإن السعد راح مخلدا وقد أنجز الرحمن بالنصر موعدا     حبانا إله الخلق فتحا بدا لنا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا     تهلل وجه الدهر بعد قطوبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا     ولما طغى البحر الخضم بأهله الط
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      غاة وأضحى بالمراكب مزبدا     أقام لهذا الدين من سل عزمه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صقيلا كما سل الحسام مجردا     فلم ينج إلا كل شلو مجدل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثوى منهم أو من تراه مقيدا     ونادى لسان الكون في الأرض رافعا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      عقيرته في الخافقين ومنشدا     أعباد عيسى إن عيسى وحزبه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وموسى جميعا يخدمون محمدا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو شامة : وبلغني أنه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى والأشرف [ ص: 108 ] موسى والكامل محمد . قال وهذا من أحسن شيء اتفق . وكان ذلك يوم الأربعاء تاسع عشر رجب من هذه السنة ، وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها من البلدان ، ورجع المعظم إلى الشام ، واصطلح الأشرف والكامل على أخيهما المعظم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها ولى الملك المعظم قضاء دمشق لجمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت المال بها ، وكان فاضلا بارعا ، يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية وبعد فراغها لإثبات المحاضر ، ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة ، جزاه الله خيرا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية