الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 397 ] صفة أخذهم لدمشق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وزوال ملكهم عنها سريعا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أرسل هولاكو وهو نازل على حلب جيشا مع أمير من كبار دولته يقال له : كتبغانوين . فوردوا دمشق في آخر صفر ، فأخذوها سريعا من غير ممانعة ولا مدافعة ، بل تلقاهم كبارها بالرحب والسعة ، وقد كتب معهم السلطان هولاكو فرمان أمان لأهل البلد ، فقرئ بالميدان الأخضر ، ونودي به في البلد ، فأمن الناس على وجل أن يغدروا كما فعل بأهل حلب ، هذا والقلعة ممتنعة مستورة ، وفي أعاليها المجانيق منصوبة ، والحال شديدة ، فأحضرت التتار مجانيق تحمل على عجل والخيول تجرها ، وهم راكبون على الخيل ، وأسلحتهم تحمل على أبقار كثيرة ، فنصب المجانيق على القلعة من غربيها وهدموا حيطانا كثيرة وأخذوا حجارتها ورموا بها القلعة رميا متواترا كالمطر المتدارك ، فهدموا كثيرا من أعاليها وشرفاتها ، وتداعت للسقوط ، فأجابهم متوليها في آخر ذلك النهار للمصالحة ، ففتحوها وخربوا كل بدنة فيها ، وأعالي بروجها ، وذلك في المنتصف من جمادى الأولى من هذه السنة ، وقتلوا المتولي بها بدر الدين بن قراجا ، ونقيبها جمال الدين بن الصيرفي الحلبي ، وسلموها إلى أمير منهم يقال له : إيل سبان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان لعنه الله تعالى معظما لدين النصارى ، فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم ، فعظمهم جدا وزار كنائسهم ، فصارت لهم دولة وحولة وصولة [ ص: 398 ] بسببه ، لعنهم الله تعالى ، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو بهدايا وتحف ، وقدموا من عنده ومعهم أمان; فرمان من جهته ، ودخلوا البلد من باب توماء ومعهم صليب منصوب يحملونه على رءوس الناس ، وهم ينادون بشعارهم ، ويقولون ظهر الدين الصحيح ، دين المسيح .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويذمون دين الإسلام وأهله ومعهم أوان فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرا ، وقماقم ملآنة خمرا يرشون منها على وجوه الناس ، ويأمرون كل من يجتازون به في الأسواق والطرقات أن يقوم لصليبهم ، ودخلوا من درب الحجر ، فوقفوا عند رباط الشيخ أبي البيان ، ورشوا هنالك خمرا ، وكذلك على باب مسجد درب الحجر الصغير والكبير ، واجتازوا في السوق حتى وصلوا إلى درب الريحان أو قريب منه ، فتكاثر عليهم المسلمون ، فردوهم إلى سوق كنيسة مريم ، فوقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق هنالك ، فذكر في خطبته مدح دين النصارى ، وذم دين الإسلام وأهله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم ولجوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم ، وكانت بعد عامرة ، ولكن كان هذا سبب خرابها ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الشيخ قطب الدين في " الذيل على المرآة " أنهم ضربوا بالناقوس بكنيسة مريم . فالله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وذكر أنهم دخلوا إلى الجامع بخمر ، وكان من نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيرا من المساجد وغيرها ، فكفى الله شرهم . ولما وقع هذا في [ ص: 399 ] البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء ، فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها إيل سبان ، فأهينوا وطردوا ، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان في أول هذه السنة سلطان الشام الناصر بن العزيز ، قد أقام في وطأة برزة ، ومعه خلق كثير من الجيوش والأمراء وأبناء الملوك ليناجزوا التتار إن قدموا عليهم ، وكان ممن معه الأمير بيبرس البندقداري في جماعة من البحرية ، والكلمة بين الجيوش مختلفة غير مؤتلفة ، لما يريده الله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد عزمت طائفة من الأمراء على خلع الملك الناصر وسجنه ومبايعة أخيه شقيقه الملك الظاهر علي ، فلما تنسم الناصر ذلك هرب إلى القلعة المنصورة وتفرقت العساكر شذر مذر ، وساق الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري في أصحابه إلى ناحية غزة ، فاستدعاه الملك المظفر قطز إليه ، واستقدمه عليه ، وأقطعه قليوب ، وأنزله بدار الوزارة ، وعظم شأنه لديه ، وإنما كان حتفه على يديه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية