الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

وأما في كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير .

قال ابن الصلاح في فتاويه : وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر ، أنه قال : صنف أبو عبد الرحمن السلمي " حقائق التفسير " فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر .

قال ابن الصلاح : وأنا أقول : الظن بمن يوثق به منهم - إذا قال شيئا من ذلك - أنه [ ص: 458 ] لم يذكره تفسيرا ، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة ، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية ، وإنما ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن ، فإن النظير يذكر بالنظير ، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإيهام والإلباس .

وقال النسفي في عقائده : النصوص على ظاهرها ، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد .

قال التفتازاني في شرحه : سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها ، بل لها معان باطنية لا يعرفها إلا المعلم ، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية .

قال : وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان .

وسئل شيخ الإسلام سراج الدين البقليني عن رجل قال في قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ البقرة : 255 ] . إن معناه : من ذل أي من الذل . ذي : إشارة إلى النفس يشف ، من الشفاء جواب ( من ) ع : أمر من الوعي ، فأفتى بأنه ملحد ، وقد قال تعالى : إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا [ فصلت : 40 ] . قال ابن عباس : هو أن يضع الكلام على غير موضعه . أخرجه ابن أبي حاتم .

فإن قلت : فقد قال الفريابي : حدثنا سفيان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : [ ص: 459 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكل آية ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع .

وأخرج الديلمي من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا : القرآن تحت العرش ، له ظهر وبطن يحاج العباد .

وأخرج الطبراني وأبو يعلى والبزار وغيرهم عن ابن مسعود موقوفا . إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حد ، ولكل حد مطلع .

قلت : أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه .

أحدها : أنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها .

والثاني : أن ما من آية إلا عمل بها قوم ، ولها قوم سيعملون بها ، كما قاله ابن مسعود فيما أخرجه ابن أبي حاتم .

الثالث : أن ظاهرها لفظها ، وباطنها تأويلها .

الرابع : قال أبو عبيد : وهو أشبهها بالصواب : إن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ، ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، إنما هو حديث حدث به عن قوم ، وباطنها وعظ الآخرين ، وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم ، فيحل بهم مثل ما حل بهم .

وحكى ابن النقيب قولا خامسا : أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق .

ومعنى قوله : ولكل حرف حد أي : منتهى فيما أراد الله من معناه .

وقيل : لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب .

[ ص: 460 ] ومعنى قوله : ولكل حد مطلع . لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ، ويوقف على المراد به .

وقيل : كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة .

وقال بعضهم : الظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على الوعد الوعيد .

قلت : يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك ، عن ابن عباس قال : إن القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أوغل فيه بعنف هوى . أخبار وأمثال ، وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل ، فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء .

وقال ابن سبع في شفاء الصدور : ورد عن أبي الدرداء أنه قال : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها .

وقال ابن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن . قال : وهذا الذي قالاه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر .

وقال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم ، فهذا يدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ، ومتسعا بالغا ، وأن المنقول من ظاهر التفسير ، ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل ، والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ، ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر ، بل لا بد منه أولا ، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ، ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت ، قبل أن يجاوز الباب . انتهى .

[ ص: 461 ] وقال الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن :

اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني العربية ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جلبت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان ، وثم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث ، لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء في الحديث : لكل آية ظهر وبطن فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم وأن يقول لك ذو جدل ومعارضة : هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله ، فليس ذلك بإحالة ، وإنما يكون إحالة لو قالوا : لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لم يقولوا ذلك ، بل يقرءون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ، ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية