الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير

هذه الآيات نزلت في أعراب وقوم لا يقين لهم، كان أحدهم إذا أسلم فاتفقت له اتفاقات حسان من نمو مال وولد ذكر يرزقه وغير ذلك قال: هذا دين جيد، وتمسك به لهذه المعاني، وإن كان الأمر بخلاف تشاءم به وارتد كما صنع العرنيون وغيرهم. قال هذا المعنى ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم.

وقوله تعالى: "على حرف" معناه: على انحراف منه عن العقيدة البيضاء، أو على شفا منها، معد للزهوق، و "الفتنة": الاختبار، وقوله: انقلب على وجهه عبارة [ ص: 220 ] للمولي عن الأمور. و "خسارته الدنيا والآخرة" أما الدنيا فبالمقادير التي جرت عليه، وأما الآخرة فبارتداده وسوء معتقده. وقرأ مجاهد ، وحمزة ، والأعرج : "خاسر الدنيا والآخرة" نصبا على الحال.

وقوله تعالى: ما لا يضره وما لا ينفعه يريد الأوثان، ومعنى "يدعو": يعبد، ويدعو أيضا في ملماته. واختلف الناس في قوله تبارك وتعالى: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه فقالت فرقة من الكوفيين : اللام مقدمة على موضعها، وإنما التقدير: يدعو من يضره، ويؤيد هذا التأويل أن عبد الله بن مسعود قرأ: "يدعو من ضره"، وقال الأخفش : "يدعو" بمعنى يقول، و "من" مبتدأ، و "ضره" مبتدأ، و "أقرب" خبره، والجملة صلة، وخبر "من" محذوف، والتقدير: يقول لمن ضره أقرب منه نفعه: إله، وشبه هذا يقول عنترة :


يدعون عنتر والرماح كأنها ...........................

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا قول فيه نظر، فتأمل إفساده للمعنى إذ لم يعتقد الكافر قط أن ضر الأوثان أقرب من نفعها، واعتذار أبي علي هنا مموه، وأيضا فهو لا يشبه البيت الذي استشهد به. وقيل: المعنى في "يدعو" يسمى، وهذا كالقول الذي قبله إلا أن المحذوف آخرا مفعول تقديره: إلها. وقال الزجاج : يجوز أن يكون "يدعو" في موضع الحال وفيه هاء محذوفة، والتقدير: ذلك هو الضلال البعيد، أي: يدعوه، فيوقف على هذا. قال أبو علي : ويحسن أن يكون "ذلك" بمعنى: الذي، أي: الذي هو [ ص: 221 ] الضلال البعيد يدعو، فيكون قوله: "ذلك" موصولا بقوله: هو الضلال البعيد ، ويكون "يدعو" عاملا في قوله: "ذلك".

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

كون "ذلك" بمعنى "الذي" غير سهل، وشبهه المهدوي بقوله تعالى: وما تلك بيمينك . وقد يظهر في الآية أن يكون قوله: "يدعو" متصلا بما قبله، ويكون فيه معنى التوبيخ، كأنه قال: يدعو من لا يضر ولا ينفع، ثم كرر "يدعو" -على جهة التوبيخ- غير معدى; إذ قد عدي أول الكلام، ثم ابتدأ الإخبار بقوله: "لمن ضره" واللام مؤذنة بمجيء القسم، والثانية التي في "لبئس" لام القسم وإن كان أبو علي مال إلى أنها لام الابتداء والثانية لام اليمين، ويظهر أيضا في الآية أن يكون المراد: يدعو من ضره، ثم علق الفعل باللام، وصح أن يقدر هذا الفعل من الأفعال التي تعلق وهي أفعال النفس كظننت وحسبت، وأشار أبو علي إلى هذا ورد عليه.

و "العشير": القريب المعاشر في الأمور، وذهب الطبري إلى أن المراد بـ "المولى" و "العشير" هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد ، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية