الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ الشرك الأكبر ]


      والشرك نوعان فشرك أكبر به خلود النار إذ لا يغفر     وهو اتخاذ العبد غير الله
      ندا به مسويا مضاهي

      ( والشرك ) الذي هو ضد التوحيد ( نوعان ) ; أي ينقسم إلى نوعين :

      ( فشرك أكبر ) ينافي التوحيد بالكلية ويخرج صاحبه من الإسلام ( به خلود ) فاعله في ( النار ) أبدا ( إذ ) تعليل لأبدية الخلود أي لكونه ( لا يغفر ) قال الله تبارك وتعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) ( النساء : 48 ) وقال تعالى : ( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) ( النساء : 116 ) وقال تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [ ص: 476 ] ( المائدة : 72 ) وقال تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) ( الحج : 31 ) .

      وقال لصفوة خلقه وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام بعد أن أثنى عليهم : ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) ( الأنعام : 88 ) وقال لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) ( الزمر : 65 ) فالشرك أعظم ذنب عصي الله به ، ولهذا أخبرنا سبحانه أنه لا يغفره ، وأنه لا أضل من فاعله وأنه مخلد في النار أبدا لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع ، وأنه لو قام لله تعالى قيام السارية ليلا ونهارا ثم أشرك مع الله تعالى غيره لحظة من اللحظات ومات على ذلك فقد حبط عمله كله بتلك اللحظة التي أشرك فيها ، ولو كان نبيا رسولا ، ولو كان محمدا صلى الله عليه وسلم ، وهذا من تقدير وقوع المحال وهو كثير في اللغة العربية ; أي لو قدر وقوع ذلك من ملك أو رسول لكان كغيره من المشركين في حبوط عمله وحلول غضب الله عليه ، وإلا فلم يرسل الله تعالى رسولا إلا معصوما من جميع المعاصي فضلا عن الشرك . ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ( الأنعام : 124 ) والآيات في بيان عظم الشرك ووعيد فاعله أكثر من أن يحيط بها هذا المختصر ، وفي معناها من الأحاديث ما لا يحصى ، ولنذكر من ذلك ما تيسر فنقول وبالله التوفيق :

      وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من مات يشرك بالله شيئا دخل النار " وقلت أنا : ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . وفيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أتى [ ص: 477 ] النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ما الموجبتان ؟ فقال : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار " وفيه عنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقي الله يشرك به شيئا دخل النار " وفيه من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق " . وفيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " الحديث .

      وفيه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ( ثلاثا ) : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور " الحديث . وروى أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدواوين عند الله ثلاثة : ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله . فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال الله عز وجل : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقال : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ) وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه أو صلاة ، فإن الله تعالى يغفر ذلك ويتجاوزه إن شاء ، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضا ، القصاص لا محالة " تفرد به أحمد . وله عن معاوية رضي الله عنه قال : سمعت [ ص: 478 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " ورواه النسائي أيضا .

      ولأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى يقول : يا عبدي ، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان منك . يا عبدي ، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة " . وللترمذي وقال : حسن صحيح عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي . يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك . يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة " .

      ولابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئا إلا حلت لها المغفرة ، إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . ولأبي يعلى عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب " . قيل : يا نبي الله ، وما الحجاب ؟ قال : " الإشراك بالله " قال : " ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة [ ص: 479 ] من الله تعالى ، إن شاء أن يعذبها وإن شاء أن يغفر لها " . ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .

      ولأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " . ولابن أبي حاتم عن أبي أيوب رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام . قال : " وما دينه " قال : يصلي ويوحد الله . قال : " استوهب منه دينه ، فإن أبى فابتعه منه " . فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : وجدته شحيحا على دينه . قال فنزلت : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .

      وللطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا " . ولابن مردويه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخبركم بأكبر الكبائر : الإشراك بالله " ثم قرأ : ( ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) ( النساء : 48 ) " وعقوق الوالدين " ثم قرأ : ( أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) ( لقمان : 14 ) .

      وللإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) ( الأنعام : 82 ) شق ذلك على الناس فقالوا : يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : " إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : ( يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ) " [ ص: 480 ] ( لقمان : 13 ) الحديث في الصحيحين . ولابن مردويه من حديث عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما : " لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو صلبتم أو حرقتم " . ولابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال : " لا تشركوا بالله شيئا وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم " . وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : " يا معاذ ، أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله عز وجل ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " . وللبخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أي عم ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك . فنزلت : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) ( التوبة : 113 ) .

      [ ص: 481 ] . والأحاديث في عظم ذنب الشرك وشدة وعيده أكثر من أن تحصى ، وقد قدمنا من أحاديث التوحيد جملة وافية عند الكلام على لا إله إلا الله وغير ذلك ، والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه ، كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به ، ولهذا كان أول دعوة الرسل كلهم إلى توحيد الله عز وجل ونفي الشرك ، فلم يأمروا بشيء قبل التوحيد ، ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك ، كما قدمنا بسط ذلك . وما ذكر الله تعالى التوحيد مع شيء من الأوامر إلا جعله أولها ، ولا ذكر الشرك مع شيء من النواهي إلا جعله أولها ، كما في آية النساء : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) ( النساء : 36 ) ، وكما في آية الأنعام التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم البيعة عليها ، وهي قوله تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) [ ص: 482 ] ( الأنعام : 151 - 153 ) وكما في آيات الإسراء : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) - إلى قوله - ( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ) ( الإسراء : 23 - 39 ) فابتدأ تلك الأوامر والنواهي بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، وختمها بذلك .

      وكما في آيات الفرقان في الثناء على عباده المؤمنين في اجتنابهم الفواحش : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) ( الفرقان : 68 ) الآيات وغير ذلك من الآيات . وكذلك في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الجامعة للأوامر والنواهي ، يبدأ في الأوامر بالتوحيد وفي المناهي بالشرك ، كما في حديث الكبائر المتقدم ، وكما في حديث من سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني عن النار . قال : " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا " وذكر الحديث . وكذا في أحاديث أركان الإسلام ، وكحديث جبريل المشهور ، وحديث ابن عمر ، وحديث وفد عبد القيس وغيرها ، يبدأ فيها بالشهادتين . ومن تتبع القرآن والسنة وتدبر نصوصهما تبين له أنها لا تخرج عن الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وما يتعلق بذلك ، ولم يخلق الله الخلق إلا لذلك .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية