الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 380 ] فصل ( في قول كيف أمسيت كيف أصبحت ؟ بدلا من السلام ) .

قال الإمام أحمد رضي الله عنه لصدقة وهم في جنازة يا أبا محمد كيف أمسيت ؟ فقال له : مساك الله بالخير وقال أيضا للمروذي : وقت السحر كيف أصبحت يا أبا بكر ؟ وقال إن أهل مكة يقولون إذا مضى من الليل يريد بعد النوم كيف أصبحت ؟ فقال له المروذي : صبحك الله بخير يا أبا عبد الله وظاهر هذا أنه اكتفى به بدلا من السلام وترجم عليه الخلال ( قوله في السلام كيف أصبحت ) .

وروى عبد الله بن أحمد عن الحسن مرسلا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الصفة : كيف أصبحتم ؟ } وروى ابن ماجه بإسناد لين من حديث أبي أسيد الساعدي { أنه عليه السلام دخل على العباس فقال : السلام عليكم قالوا وعليك السلام ورحمة الله وبركاته قال : كيف أصبحتم ؟ قالوا بخير نحمد الله ، كيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول الله قال : أصبحت بخير أحمد الله } .

وروي أيضا عن جابر قلت : { كيف أصبحت يا رسول الله ؟ قال : بخير من رجل لم يصبح صائما ولم يعد سقيما } وفيه عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف .

وفي حواشي تعليق القاضي الكبير عند كتاب النذور : روى أبو بكر البرقاني بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لو لقيت رجلا فقال بارك الله فيك ، لقلت وفيك فقد ظهر من ذلك الاكتفاء بنحو كيف أصبحت ؟ وكيف أمسيت ؟ بدلا من السلام ، وإنه يرد على المبتدئ بذلك ، وإن كان السلام وجوابه أفضل وأكمل .

وقد استحب ابن الجوزي القيام لمن يصلح القيام له لما صار ترك القيام كالإهوان بالشخص ، واستحب ابن عقيل وغيره الدعاء للمتجشئ إذا حمد الله وقال : إنه لا سنة فيه بل هو عادة موضوعة ، ومعلوم أن مسألتنا [ ص: 381 ] لو لم يكن فيها سنة كانت كذلك أو أولى لشهرة الاستعمال هنا من غير نكير ، فأما مع السنة السابقة واللاحقة والاستعمال المتقدم فالأمر واضح ، ثم هل يجب رد ذلك ؟ بتوجه أن يقال ظاهر كلام أصحابنا وغيرهم من اتباع الأئمة الأربعة أنه يجب فإنهم خصوا الوجوب برد السلام لأن الأمر برد السلام وإفشائه يخصه فلا يتعداه .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة { أن الله تعالى لما خلق آدم قال له : اذهب إلى أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك ، فذهب فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله } فظاهر هذا الخبر الصحيح أن الاقتصار على ما سوى هذا ليس بتحية شرعية ، ويتوجه أن يقال ظاهر تسوية الإمام أحمد رحمه الله بين ذلك وبين السلام على الذمي في المنع أنه يجب رده لأنه في معناه من التحية والدعاء والإكرام أو أولى كما سبق كلام الإمام أحمد في ذلك وهذا أخص من مأخذ عدم الوجوب مما سبق وقد ذكره الأصحاب وعملوا به فكان أولى وقد قال تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } .

ومثل هذا تحية لوروده في كلام الشارع وحملة الشرع ، ولأن العرف جار بذلك والأصل التقرير وعدم التغيير على ما ذكر العلماء ، إلا أن يظهر خلافه . وقد قال بعض المفسرين المراد بالآية السلام والدعاء ، وقد قال تعالى : { ويل للمطففين } .

قال مقاتل وعمر وابن مرة : ترك المكافأة من التطفيف ورواه أحمد عن عمرو بن مرة ولم ينص أحمد رحمه الله على ما يخالفه وقد قال عليه السلام { من أسدى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا فادعوا له } وإخراج مسألتنا من ظواهر هذه الأوامر دعوى تفتقر إلى دليل والأصل عدمه لأن في ترك الرد لا سيما مع التكرار عداوة وشنآنا ووحشة ونفرة على ما لا [ ص: 382 ] يخفى فيجب الرد لذلك ، والله سبحانه قد أمر بالمحبة والائتلاف . ونهى عن التفريق والاختلاف .

فإن قيل يزول ما ذكر من المحذور بإعلام قائل ذلك أن ما قاله ليس بتحية شرعية وأنه بدعة محدثة ليوطن المكلفون على فعل السنن واجتناب البدع قيل فهذا الإعلام واجب ؟ فإن لم يجب جاز تركه وبقي المحذور ، وإن وجب فمن أوجبه من العلماء وما دليله شرعا ؟ ثم ما الدليل على أنه ليس بتحية شرعية وأنه بدعة ؟ ولو صح هذا لكان ضلالة لقوله عليه السلام { وكل بدعة ضلالة } فيكون محرما ولم يقل هذا أحد فدل على بطلانه .

ثم قد سبق الدليل على أنه تحية شرعية لا بدعية وأن من المعلوم أنه من الكلام الطيب والمعروف وكلاهما صدقة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الإحسان ، والشرع قد أمر بمجازاة ذلك ومكافأته ، والأمر للوجوب إلا ما دل دليل شرعي على خلافه والأصل عدمه ، ويؤيد ما سبق أن الشارع لم ينه عنه مع وقوعه ولهذا لما تزوج عقيل بن أبي طالب امرأة قالوا له : بالرفاء والبنين . فقال لا تقولوا هكذا ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اللهم بارك لهم وبارك عليهم } رواه النسائي وابن ماجه ولأحمد معناه ، وله في رواية لا تقولوا ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ذلك ، { قولوا بارك الله لها فيك وبارك لك فيها } قال في النهاية الرفاء الالتئام والاتفاق والبركة والنماء ومنه قولهم رفأت الثوب رفئا ورفوته رفوا وإنما نهى عنه كراهية لأنه كان من عاداتهم ولهذا سن فيه غيره انتهى كلامه مع أن في هذا الخبر كلاما وبعضه في حواشي الأحكام وقد قال عبد الله بن وهب دعوت يونس بن زيد في [ ص: 383 ] عرسي فسمعته يقول سمعت ابن شهاب يقول في عرس لصاحبه بالجد الأسعد والطائر الأيمن قال وهذه تهنئة أهل الحجاز .

ولأن الشارع نهى عن الابتداء يقول عليكم السلام ومع هذا رده أبو داود وقد قال في شرح مسلم فيه يستحق الجواب على الصحيح المشهور وأوجب بعض الشافعية رده مع أنه منهي عنه ولم يجر به عرف لا عنه ولا عن حملة الشرع فما نحن فيه أولى وهذا القول بالوجوب ظاهر كلام الشيخ تقي الدين فإنه قال يجب العدل على كل أحد في كل شيء ، ويجب لكل أحد في كل شيء قال ولشمول العدل لكل قال تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } .

قال بعض السلف أظنه محمد بن الحنفية هي البر والفاجر يعني أن المحسن يستحق أن يجزى بالإحسان وإن كان فاجرا لأنه من العدل والعدل واجب ولهذا قال تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } .

فرد مثلها عدل والعدل واجب ، والتحية بأحسن منها فضل والفضل مستحب .

وقد قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله في " عليكم السلام " ما سبق وقال في مسألتنا لا يستحق الجواب مع اعترافه بصحة النهي في عليكم السلام ولا نهي في مسألتنا وإن كان فللتأديب ليتعلم السلام المشهور ولهذا لا يقال بالكراهة في مسألتنا بل قد يقال : ترك الأولى .

فقد ظهر أن المسألة على قولين مأخوذين من كلام الإمام والأصحاب رحمهم الله وإنها محتملة لوجهين من جهة الدليل والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية