الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن جذيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ، أبو العلاء المعري التنوخي الشاعر

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      المشهور بالزندقة ، اللغوي ، صاحب الدواوين والمصنفات في الشعر واللغة ، ولد يوم الجمعة عند [ ص: 746 ] غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ، وأصابه جدري وله أربع أو ست أو سبع ، فذهب بصره ، وقال الشعر وله إحدى عشرة أو ثنتا عشرة سنة ، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، فأقام بها سنة وسبعة أشهر ، ثم خرج منها طريدا منهزما ; لأنه قال شعرا يدل على قلة دينه وعلمه وعقله ، وهو قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار     يد بخمس مئين عسجد فديت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما بالها قطعت في ربع دينار

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يقول : اليد ديتها خمسمائة دينار ، فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار . وهذا من قلة عقله ، وعمى بصيرته ; وذلك أنها إذا جني عليها يناسب أن يكون ديتها كثيرة ; لينزجر الناس عن العدوان ، وأما إذا جنت بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها ; لينزجر عن أخذ الأموال ، وتصان أموال الناس ، ولهذا قال بعضهم : كانت ثمينة لما كانت أمينة ، فلما خانت هانت . ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا الكلام هرب ورجع إلى بلده ، ولزم منزله ، فكان لا يخرج منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان يوما عند الخليفة ; وكان الخليفة يكره المتنبي ، ويضع منه ، وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه ، فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس ، فذمه الخليفة ، فقال أبو العلاء : لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 747 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لك يا منازل في القلوب منازل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لكفاه ذلك . فغضب الخليفة ، وأمر به فسحب برجله على وجهه ، وقال : أخرجوا عني هذا الكلب . وقال الخليفة : أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة ، وذكره لها ؟ أراد قول المتنبي فيها :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإذا أتتك مذمتي من ناقص     فهي الدليل على أني كامل

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه ، وإنما أراد هذا . وهذا من فرط ذكاء الخليفة ، حيث تنبه لهذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان المعري أيضا من الأذكياء ، ومكث المعري خمسا وأربعين سنة من عمره لا يأكل لحما ولا لبنا ولا بيضا ولا شيئا من حيوان ، على طريقة البراهمة من الفلاسفة ، ويقال : إن راهبا اجتمع به في بعض الصوامع ; آواه الليل إليه ، فشككه في دينه . وكان يتقوت بالنبات ، وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين ، ولا يأكل بحضرة أحد ، ويقول : أكل الأعمى عورة . وكان في غاية الذكاء المفرط على ما ذكر . وأما ما ينقل عنه من الأشياء المكذوبة المختلفة من أنه وضع تحت سريره درهم ، فقال : إما أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم أو ارتفعت الأرض مثل ذلك ، فهذا لا أصل له وهو كذب عليه . وكذلك يذكرون أنه مر في بعض أسفاره بمكان فطأطأ [ ص: 748 ] رأسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : أما هاهنا شجرة ! فلم يوجد ، ثم نظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك قديما قد اجتاز بها مرة ، فأمره من كان معه بمطأطأة رأسه هناك فاستحضره في هذه المرة ، فهذا أيضا لا يصح وهو كذب . وكذلك ما شاكل هذا من الكذب البحت ولكن كان ذكيا ، ولم يكن زكيا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر ، وفي بعض أشعاره ما يدل على زندقة وانحلال . ومن الناس من يعتذر عنه ويقول : كان في الباطن مسلما ، وإنما يقول ذلك بلسانه . قال ابن عقيل : وما الذي كان يلجئه أن يقول في دار الإسلام ما يكفره به الناس ؟ قال : والمنافقون مع قلة عقلهم وعلمهم ودينهم أجود سياسة منه ; حافظوا على قبائحهم في الدنيا ، وهذا أظهر الكفر الذي تسلط به عليه الناس ، والله تعالى أعلم أن باطنه كظاهره . قال ابن الجوزي : وقد رأيت لأبي العلاء المعري كتابا سماه " الفصول والغايات في معارضة السور والآيات " ، على حروف المعجم في آخر كلماته ، وهو في نهاية الركاكة والبرودة ، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته . قال : وقد نظرت في كتابه المسمى " لزوم ما لا يلزم " . ثم أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره أشياء كثيرة ، فمن ذلك قوله :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 749 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا كان لا يحظى برزقك عاقل     وترزق مجنونا وترزق أحمقا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا ذنب يا رب السماء على امرئ     رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهيهات البرية في ضلال     وقد نظر اللبيب لما اعتراها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تقدم صاحب التوراة موسى     وأوقع في الخسار من افتراها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال رجاله وحي أتاه     وقال الناظرون بل افتراها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما حجي إلى أحجار بيت     كئوس الخمر تشرب في ذراها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا رجع الحليم إلى حجاه     تهاون بالمذاهب وازدراها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت     ويهود حارت والمجوس مضلله
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا     دين وآخر دين لا عقل له

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا تحسب مقال الرسل حقا     ولكن قول زور سطروه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 750 ] فكان الناس في عيش رغيد     فجاءوا بالمحال فكدروه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقلت أنا في معارضة هذا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلا تحسب مقال الرسل كذبا     ولكن قول حق بلغوه
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الناس في جهل عظيم     فجاءوا بالبيان فأذهبوه

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أيضا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن الشرائع ألقت بيننا إحنا     وأورثتنا أفانين العداوات
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وهل أبيح نساء الروم عن عرض     للعرب إلا بأحكام النبوات

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وما حمدي لآدم أو بنيه     وأشهد أن كلهم خسيس

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أيضا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما     دياناتكم مكر من القدماء

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك قوله أيضا :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 751 ]

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صرف الزمان مفرق الإلفين     فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أنهيت عن قتل النفوس تعمدا     وبعثت أنت لقبضها ملكين
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وزعمت أن لها معادا ثانيا     ما كان أغناها عن الحالين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أيضا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة     وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      تحطمنا الأيام حتى كأننا     زجاج ولكن لا يعود له سبك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أيضا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أمور تستخف بها حلوم     وما يدري الفتى لمن الثبور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      كتاب محمد وكتاب موسى     وإنجيل ابن مريم والزبور

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك أيضا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالت معاشر لم يبعث إلهكم     إلى البرية عيساها ولا موسا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وإنما جعلوا الرحمن مأكلة     وصيروا دينهم في الناس ناموسا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر له أشياء غير ذلك ، وكل قطعة من هذه تدل على كفره وانحلاله وزندقته وضلاله ، ويقال : إنه أوصى أن يكتب على قبره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هذا جناه أبي علي     وما جنيت على أحد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      معناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار ، حتى صار بسبب ذلك إلى [ ص: 752 ] ما إليه صار ، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية ، وهذا كله كفر وإلحاد ، قبحه الله . وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كله وتاب منه ، وأنه قال قصيدة يعتذر فيها من هذا كله ، ويتنصل منه ، وهي القصيدة التي يقول فيها :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا من يرى مد البعوض جناحها     في ظلمة الليل البهيم الأليل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ويرى مناط عروقها في نحرها     والمخ في تلك العظام النحل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      امنن علي بتوبة تمحو بها     ما كان مني في الزمان الأول

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كانت وفاته في ربيع الأول من هذه السنة بمعرة النعمان ، عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يوما ، وقد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته ، وأنشدت عند قبره ثمانون مرثاة ، حتى قال بعضهم في مرثاته :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن كنت لم ترق الدماء زهادة     فلقد أرقت اليوم من جفني دما

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي : وهؤلاء إما جهال بأمره ، وإما ضلال على مذهبه وطريقته . وقد رأى بعضهم في النوم رجلا ضريرا على عاتقيه حيتان مدليتان إلى صدره رافعتان رءوسهما ، وهما ينهشان من لحمه ، وهو يستغيث ، وقائل يقول : هذا المعري الملحد . وقد ذكره ابن خلكان في " الوفيات " فرفع في نسبه كما ذكرنا ، وقد ذكر له من التصانيف كتبا كثيرة ، وذكر أن بعضهم وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتابه المسمى ب " الأيك والغصون " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 753 ] وهو المعروف ب " الهمز والردف " ، وأنه أخذ العربية عن أبيه ، واشتغل بحلب على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي ، وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي ، والخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي ، وذكر أنه مكث خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم على طريقة الحكماء ، وأنه أوصى أن يكتب على قبره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      هذا جناه أبي علي     وما جنيت على أحد

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : وهذا أيضا متعلق باعتقاد الحكماء ، فإنهم يقولون : إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا الوجود جناية عليه ; لأنه يتعرض للحوادث والآفات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وهذا يدل على أنه لم يتغير عن اعتقاد الحكماء إلى آخر وقت ، وأنه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم . والله أعلم بظواهر الأمور وبواطنها . وذكر ابن خلكان أن عينه اليمنى كانت ناتئة ، وعليها بياض ، واليسرى غائرة ، وكان نحيفا ، ثم أورد من أشعاره الجيدة أبياتا ، فمنها قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لا تطلبن بآلة لك رتبة     قلم البليغ بغير جد مغزل
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      سكن السماكان السماء كلاهما     هذا له رمح وهذا أعزل



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الأستاذ أبو عثمان الصابوني ، إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن [ ص: 754 ] إسماعيل بن إبراهيم بن عامر بن عابد النيسابوري

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الحافظ الواعظ المفسر ، قدم دمشق وهو ذاهب إلى الحج ، فسمع بها وذكر الناس ، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة عظيمة ، وأورد له أشياء حسنة من أقواله وشعره ، فمن ذلك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا لم أصب أموالكم ونوالكم     ولم آمل المعروف منكم ولا البرا
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكنتم عبيدا للذي أنا عبده     فمن أجل ماذا أتعب البدن الحرا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وروى ابن عساكر عن إمام الحرمين أنه قال : كنت أتردد وأنا بمكة في المذاهب ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : عليك باعتقاد أبي عثمان الصابوني ، رحمه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية