الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 56 ]

باب

في الأدلة الدالة على توحيد الله تعالى أيضا وحكاية أقوال أهل العلم في بيان أنواعه، وما يتصل بذلك

قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل: 36].

وفيه: الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك.

والأمر حقيقة في الوجوب، كما أن النهي حقيقة في التحريم على ما قرره علماء البيان والمعاني

معنى الطاغوت

ومادة لفظة «طاغوت» من الطغيان، وهو مجاوزة الحد.

قال عمر -رضي الله عنه-: الطاغوت: الشيطان.

وقال جابر: الطواغيت: الكهنة، كانت تنزل عليهم الشياطين.

وقال مالك: الطاغوت: كل ما عبد غير الله.

وقال ابن كثير: الطاغوت: الشيطان، وكل ما زينه من عبادة غير الله.

وقال ابن القيم: الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع.

فطاغوت كل قوم: ما يتحاكمون إليه غير الله، ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله. [ ص: 57 ]

فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة الله، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت، ومتابعته.

ومعنى الآية: أنه سبحانه أخبرنا أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولا بهذه الكلمة أن اعبدوا الله ؛ أي: وحدوه، وأخلصوا له العبادة، ولا تشركوا به شيئا، أي شيء كان، من أي شخص، في أي مكان-.

واجتنبوا الطاغوت ؛ أي: اتركوا عبادة ما سواه -عز وجل- أي عبادة كانت من التي نهى عنها الله، ورسوله، ولم يأذن بها أحدا كما قال سبحانه وتعالى -: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها [البقرة: 256].

وهذا معنى «لا إله إلا الله»، فإنها هي العروة الوثقى.

قال ابن كثير في هذه الآية: كلهم يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه.

فلم يزل الله تعالى يرسل الرسل إلى الناس بذلك منذ حدث الشرك في قوم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الجن والإنس، في المشارق والمغارب.

وكلهم كما قال تعالى في هذه الآية قالوا: اعبدوا الله وحده، واتركوا عبادة غيره، كائنا ما كان.

فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء [النحل: 35]؟

فمشيئته الشرعية عنهم منتفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله.

وأما مشيئته الكونية، وهي تمكينهم من ذلك قدرا، فلا حجة لهم فيه؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة، وحكمة قاطعة. [ ص: 58 ]

ولهذا قال: فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة [النحل: 36].

انتهى.

فكانت الحكمة في إرسال الرسل دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين كلهم أجمعين، أكتعين أبصعين، كما أخبر بذلك ربنا رب العالمين حيث قال: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء: 25]، وإن اختلفت فيه شريعتهم، كما قال تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [المائدة: 48].

وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [النساء:36].

المراد بالعبادة هنا: التوحيد مع إخلاص العمل؛ لكونها واقعة في مقابلة النهي عن الإشراك.

التالي السابق


الخدمات العلمية