الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلنذكر صفات الأصناف الثمانية .

الصنف الأول : الفقراء .

والفقير هو الذي ليس له مال ولا قدرة له على الكسب فإن كان معه قوت يومه وكسوة حاله فليس بفقير ولكنه مسكين ، وإن كان معه نصف قوت يومه فهو فقير ، وإن كان معه قميص وليس معه منديل ولا خف ولا سراويل ولم تكن قيمة القميص بحيث تفي بجميع ذلك كما يليق بالفقراء فهو فقير ؛ لأنه في الحال قد عدم ما هو محتاج إليه ، وما هو عاجز عنه ، فلا ينبغي أن يشترط في الفقير أن لا يكون له كسوة سوى ساتر العورة فإن هذا غلو والغالب أنه لا يوجد مثله ولا يخرجه عن الفقر كونه معتادا للسؤال فلا يجعل السؤال كسبا بخلاف ما لو قدر على كسب ، فإن ذلك يخرجه عن الفقر فإن قدر على الكسب بآلة فهو فقير ويجوز أن يشتري له آلة وإن قدر على كسب لا يليق بمروءته وبحال مثله فهو فقير وإن كان متفقها ويمنعه الاشتغال بالكسب عن التفقه فهو فقير ولا تعتبر قدرته وإن كان متعبدا يمنعه الكسب من وظائف العبادات وأوراد الأوقات فليكتسب لأن الكسب أولى من ذلك قال صلى الله عليه وسلم طلب الحلال : فريضة بعد الفريضة

التالي السابق


ثم قال المصنف: (فلنذكر صفات الأصناف الثمانية) المذكورة في الآية (الصنف الأول: الفقراء) جمع الفقير، (والفقير) فعيل بمعنى فاعل، يقال: فقر فقرا من باب تعب إذا قل ماله، قال ابن السراج: ولم يقولوا فقر أي: بالضم واستغنوا عنه بافتقر. وقد اختلف أئمة اللغة والفقه في حده وحد المسكين اختلافا كثيرا، ونقل صاحب المصباح عن ابن الأعرابي أنه قال: المسكين هو الفقير، وهو الذي لا شيء له، فجعلهما سواء. اهـ .

وهذا حكاه ابن عبد البر عن ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وفيه كلام سيأتي، ومجمل القول: أن الفقير أسوأ حالا من المسكين عند الشافعي، وهو قول لأبي حنيفة، وإليه مال الأصمعي وأبو جعفر أحمد بن عبيد الله، وقال محمد بن يحيى تلميذ المصنف: وهو الصحيح عندي؛ لأن الله عز وجل بدأ به، وقال صاحب القوت: وهو عندي كذلك من قبل أن الله قدمه على الأصناف فبدأ به، فدل أنه هو الأحوج فالأحوج، أو الأفضل فالأفضل، وعند أبي حنيفة بالعكس، وهو قول ابن السكيت، ومال إليه يونس بن حبيب وابن قتيبة، واختاره أبو إسحاق المروزي من الشافعية، كما نقله في الروضة، ولكل وجه يأتي بيانه، وقد شرع المصنف في بيان الفقير، فقال: (هو الذي ليس له مال ولا قدرة على التكسب) الذي يقع موقعا من حاجته، فالذي لا يقع موقعا من حاجته كمن يحتاج عشرة ولا يملك إلا درهمين أو ثلاثة، فلا يسلبه ذلك اسم الفقير، وكذا الدار التي يسكنها والثوب الذي يلبسه متجملا به، وذكره صاحب التهذيب وغيره، ولم يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إلى خدمته، وهو في سائر الأصول ملحق بالمسكين. قاله الرافعي، زاد النووي، فقال: قد صرح ابن كج في كتابه التجريد بأنه كالمسكين، وهو متعين، والله أعلم .

ثم المفهوم من قول المصنف: ولا قدرة على الكسب، أي: أصله وليس كذلك، بل المعتبر في عجزه عن الكسب عجزه عن كسب يقع موقعا من حاجته كما قدرته أولا، (فإن كان معه قوت يومه) أي: ما يتوقى به ويتعيش (وكسوة حاله) بما يليق به (فليس بفقير ولكنه مسكين، وإن كان معه نصف قوت [ ص: 138 ] يومه) أي: ما يكفيه في أحد الوقتين (فهو فقير، وإن كان معه قميص) ، وهو الثوب الذي يلبس تحت الثياب، سواء كان من قطن أو كتان (وليس معه منديل) ، وهو ثوب يتمسح به، يقال: تمندل وتندل (ولا خف) ، وهو ما يلبس في الرجل (ولا سراويل) وهي أعجمية، وبعضهم يظن أنها جمع؛ لأنه على وزن الجمع، (ولم تكن قيمة القميص بحيث تفي بجميع ذلك كما يليق بالفقراء) أي: بحالهم (فهو فقير؛ لأنه في الحال قد عدم ما هو محتاج إليه، وما هو عاجز عنه، فلا ينبغي أن يشترط في الفقير أن لا يكون له كسوة سوى ستر العورة) كما شرطه بعضهم، (فإن هذا غلو) وتجاوز عن الحد، (والغالب أنه لا يوجد مثله) ، وفي نسخة: مثل هذا، (ولا يخرجه عن الفقر كونه معتادا للسؤال) ومعروفا به، (فلا يجعل السؤال كسبا) أي: قائما مقام الكسب، ولو تيسر له منه، وقال النووي في الروضة: ولا يشترط في الفقير الزمانة والتعفف عن السؤال على المذهب، وبه قطع المعتبرون، وقيل: قولان: الجديد كذلك والقديم يشترط، (بخلاف ما لو قدر على كسب ما، فإن ذلك يخرجه عن الفقر) لقدرته على الكسب، (فإن قدر على الكسب بآلة وليس له آلة فهو فقير) ؛ لأنه في حكم العاجز؛ كأن يكون نجارا مثلا وليس معه القدوم والمنشار، (ويجوز أن يشترى له آلة) ولكن الآلات تتفاوت، فمنها ما يشتد الاحتياج إليه ولا يتم الكسب بدونه، وهو المراد هنا، ومنها ما ليس كذلك، والصنعة الواحدة تستدعي آلات، ثم أشار إلى ما يعتبر في الكسب، فقال: (فإن قدر على كسب لا يليق بمروءته وبحال مثله فهو فقير) أي: إن المعتبر في الكسب أن يكون مما يليق بمروءته وبحاله، (وإن كان متفقها) أي: مشتغلا ببعض العلوم الشرعية كالفقه مثلا والحديث أو التفسير، أو ما له حكم هؤلاء، (ويمنعه الاشتغال بالكسب عن النفقة) أي: لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل (فهو فقير) حلت له الزكاة، (ولا تعتبر قدرته) على الكسب، ومفهومه أنه لو كان مشتغلا بغير العلوم الشرعية؛ كالمنطق والكلام والفلسفة والرياضة لا يدخل في هذا، (وإن كان مبتعدا) بأن يكون معطلا معتكفا في مدرسة أو رباط، مقتصرا على الأذكار والعبادات (يمنعه الكسب من وظائف العبادات وأوراد الأوقات) الليلية والنهارية (فليكتسب قدرته) أي: على قدرها؛ (لأن الكسب أولى به) وهذه عبادة نفعها قاصر على نفسه، فلا تحل له الزكاة مع القدرة على الكسب، والمشتغل بالعلوم الشرعية ليس كذلك، فإن نفعها متعد إلى الغير، وعلى هذا من لا يتأتى منه تحصيل العلوم الشرعية فلا يحل له أخذ الزكاة أيضا مع القدرة على الكسب. صرح به الرافعي، وقال النووي: هذا الذي ذكره في المشتغل بالعلم هو المعروف في كتب أصحابنا، وذكر الدارمي فيه ثلاثة أوجه، أحدها: يستحق، والثاني: لا، والثالث: إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفع الناس به استحق وإلا فلا، ومن أقبل على نوافل العبادات والكسب يمنعه عنها أو عن استغراق الوقت بها لا تحل له الصدقة، وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة، ثم استدل المصنف على أولوية الكسب مع القدرة للمتعبدين، فقال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: الكسب) كذا في نسخ الكتاب، وفي نسخة العراقي: طلب الحلال (فريضة بعد الفريضة) .

قال العراقي: رواه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن مسعود بسند ضعيف اهـ .

قلت: ولفظهما: كسب الحلال، وهكذا رواه القضاعي في مسند الشهاب، كلهم من طريق عباد بن كثير عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود به مرفوعا. وقال الهيثمي: تفرد به عباد، وهو ضعيف. وقال أبو أحمد الفراء: يسأل عن حديث عباد في الكسب، فإذا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن كان قاله، قال الحافظ السخاوي في المقاصد: وله شواهد، بعضها يؤكد بعضا، منها: طلب الحلال واجب على كل مسلم. رواه الطبراني في الأوسط والديلمي عن أنس وإسناد الطبراني حسن، ومنها: طلب الحلال جهاد، رواه القضاعي في مسند الشهاب من طريق محمد بن الفضل عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس، وهو عند أبي نعيم في الحلية من طريق الديلمي عن ابن عمر، وقد روي في حديث ابن مسعود السابق أيضا بلفظ: طلب كسب الحلال فريضة بعد الفريضة. أي: بعد المكتوبات الخمس، وسيأتي في كتاب الحلال والحرام الكلام على هذا إن شاء الله تعالى .




الخدمات العلمية