الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) . ( ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة ) ; لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على ذلك بمحضر من الصحابة ( ويؤخذ من نسائهم ولا يؤخذ من صبيانهم ) لأن الصلح وقع على الصدقة [ ص: 64 ] المضاعفة ، والصدقة تجب عليهن دون الصبيان فكذا المضاعف . وقال زفر رحمه الله لا يؤخذ من نسائهم أيضا ، وهو قول الشافعي ; لأنه جزية في الحقيقة على ما قال عمر : هذه جزية فسموها ما شئتم ، ولهذا تصرف مصارف الجزية ولا جزية على النسوان .

ولنا أنه مال وجب به الصلح ، والمرأة من أهل وجوب مثله عليها والمصرف مصالح المسلمين ; لأنه مال بيت المال وذلك لا يختص بالجزية ; [ ص: 65 ] ألا ترى أنه لا يراعى فيه شرائطها ( ويوضع على مولى التغلبي الخراج ) أي الجزية ( وخراج الأرض بمنزلة مولى القرشي ) وقال زفر : يضاعف لقوله عليه الصلاة والسلام { إن مولى القوم منهم } ; ألا ترى أن مولى الهاشمي يلحق به في حق حرمة الصدقة .

ولنا أن هذا تخفيف والمولى لا يلحق بالأصل فيه ، ولهذا توضع الجزية على مولى المسلم إذا كان نصرانيا ، بخلاف حرمة الصدقة لأن الحرمات تثبت بالشبهات فألحق المولى بالهاشمي في حقه ، [ ص: 66 ] ولا يلزم مولى الغني حيث لا تحرم عليه الصدقة ، لأن الغني من أهلها ، وإنما الغني مانع ولم يوجد في حق المولى ، أما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلا لأنه صين لشرفه وكرامته عن أوساخ الناس فألحق به مولاه .

التالي السابق


( فصل ) . أفرد أحكام نصارى بني تغلب بفصل ; لأن حكمهم مخالف لسائر النصارى ، وتغلب بن وائل من العرب [ ص: 64 ] من ربيعة تنصروا في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ثم زمن عمر دعاهم عمر رضي الله عنه إلى الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا : نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض الصدقة فقال : لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس شديد وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة ، فبعث عمر رضي الله عنه في طلبهم وضعف عليهم ، فأجمع الصحابة على ذلك ثم الفقهاء . وفي رواية أبي يوسف بسنده إلى داود بن كردوس عن عبادة بن النعمان التغلبي أنه قال لعمر رضي الله عنه : إن بني تغلب الحديث ، إلى أن قال : فصالحهم عمر رضي الله عنه على أن لا يغمسوا أحدا من أولادهم في النصرانية ، ويضاعف عليهم في الصدقة ، وعلى أن يسقط الجزية من رءوسهم . ففي كل أربعين شاة لهم شاتان ، ولا زيادة حتى تبلغ مائة وعشرين ففيها أربع شياه ، وعلى هذا في البقر والإبل .

ثم اختلف الفقهاء هل هي جزية على التحقيق من كل وجه أو لا ؟ فقيل من كل وجه فلا يؤخذ من المرأة والصبي ، فلو كان للمرأة ماشية ونقود لا يؤخذ منها شيء ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة . قال الكرخي : وهذه الرواية أقيس وهو قول الشافعي ; لأن الواجب بكتاب الله تعالى عليهم الجزية ، فإذا صالحوهم على مال جعل واقعا موقع المستحق ، يؤيده قول عمر رضي الله عنه هذه جزية سموها ما شئتم . وقال أصحابنا : هو وإن كان جزية في المعنى فهو واجب بشرائط الزكاة وأسبابها إذ الصلح وقع على ذلك ، ولهذا لا يراعى فيه شرائط الجزية من وصف الصغار فيقبل من النائب ويعطى جالسا إن شاء ولا يؤخذ بتلبيبه ( والمصرف مصالح المسلمين ; لأنه مال بيت المال وذلك لا يخص الجزية ) والمرأة من أهله ومن أهل ما يجب من المال بالصلح فيؤخذ منها بخلاف الصبي والمجنون لا يؤخذ من مواشيهم وأموالهم لعدم وجود الزكاة عليهم عندنا ، بخلاف أرضهم فيؤخذ خراجها ; لأنه وظيفة الأرض ، وليس عبادة لتخص البالغين [ ص: 65 ] كنفقة عبيدهم . وحاصل ما ذكرنا يفيد أنه روعي في هذا المأخوذ جهة الجزية في المصرف وفيما سوى ذلك روعي جهة الزكاة . أما الأول فلأنه حقيقة الجزية . وأما الثاني فلأن ما وقع عليه الصلح لا يغير ، وهذه الجزية التي وجبت بالصلح . وقد علمت أن الجزية قسمان : قسم يجب بالصلح فيتعين على الوجه الذي وقع عليه الصلح كيفما وقع ، والذي يراعى فيه من وجب عليه وصفه وكميته هو الجزية التي يبتدئ الإمام وضعها شاءوا أو أبوا على ما تقدم .

( قوله ويوضع على المولى التغلبي ) أي معتقه ( الخراج : أي الجزية وخراج الأرض ، وقال زفر : يضاعف ) عليه ما يؤخذ من المسلمين كالتغلبي نفسه ( لقوله عليه الصلاة والسلام { مولى القوم منهم } ) وهذا الحديث استدللنا به في الزكاة على حرمان مولى الهاشمي الزكاة ، فكذا استدل به على التضعيف على مولى التغلبي ، وجميع الأحاديث المذكورة في هذا الفصل تقدم الكلام عليها في كتاب الزكاة من هذا الكتاب . ( ولنا أن هذا ) أي وضع الصدقة المضاعفة ( تخفيف ) إذ لم يكن فيه وصف الصغار والذلة برغبتهم في ذلك واشتشقاقهم ما سواه ( والمولى لا يلحق بالأصل فيه ) أي في التخفيف ; ألا ترى أن الإسلام أعلى أسباب التخفيف ، ولو كان لمسلم مولى نصراني وضعت عليه الجزية ، ولم يتعد إليه التخفيف الثابت بالإسلام فلأن لا يتعدى التخفيف الثابت بوصف التغلبية أولى ( بخلاف حرمة الصدقات ) على الهاشمي ; لأنه ليس تخفيفا بل تحريم ( والحرمات تثبت بالشبهات فألحق مولى الهاشمي به ) وينقض [ ص: 66 ] بمولى الغني تحرم الصدقة على معتقه ولم تتعد إليه فقال ( لا يلزم ; لأن الغني من أهل الصدقة ) في الجملة ; ألا ترى أنه لو كان عاملا عليها أعطي كفايته منها ( وإنما الغنى مانع ) من الإسقاط عن المعطى له شرعا تحقق في حق سيده ولم يتحقق في المولى فخص السيد ( أما الهاشمي فليس بأهل لهذه الصلة أصلا ; لشرفه وكرامته ) لاتساخها ، ولذا لا يعطى منها لو كان عاملا ( فألحق به مولاه ) ; لأن التكريم أن لا ينسب إليه تلك الأوساخ بنسبة فإن قلت : هذا تقديم للمعنى على النص ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم { مولى القوم منهم } أجيب بأن الحديث غير مجرى على عمومه بالإجماع ، فإن مولى الهاشمي لا ينزل منزلته في الكفاءة للهاشمية والإمامة فكان عاما مخصوصا بالنسبة إلى الكفاءة والإمامة فيخص بالمعنى الذي ذكرناه أيضا ، وهو أنه تخفيف فلا يتعدى بالنسبة للتضعيف إلى المولى الأسفل بدليل التخفيف بالإسلام لم يتعد إلى المولى فيختص كون المولى منهم بما فيه دفع نقيصة لما أن نقيصة المولى الأسفل تنتسب إلى مولاه .

ووجه آخر بأن القياس أن لا يكون المولى منهم ولا ملزوما لأحكامهم ; لأنه ليس منهم حقيقة ، وقد ورد الحديث به في منع الزكاة وهو أجرته روي : { أنه صلى الله عليه وسلم استعمل أرقم بن أرقم على الصدقات فاستتبع أبا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، وإن مولى القوم منهم } فإذا علم عدم عمومه فليخص بسببه ، وهو الزكاة . وأما الجواب بأن قيل لم يوافق زفر أحد من الفقهاء فقيل بل قوله مروي عن الشعبي .




الخدمات العلمية