الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ الاستثناء من الاستثناء ]

                                                      يصح الاستثناء من الاستثناء وحكى ابن العربي في " المحصول " عن بعضهم منعه ، وقال صاحب الذخائر في باب الإقرار : حكى بعض الفقهاء عن بعض أهل العربية منعه لأن العامل في الاستثناء الفعل الأول بتقدير حرف الاستثناء ، ولا يعمل عامل في أحد المعمولين .

                                                      ولنا قوله تعالى : { إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته } قال أبو عبيد وغيره : استثنى الآل من القوم ، ثم استثنى امرأته .

                                                      قال القاضي مجلي في " الذخائر " في كتاب الطلاق : وذهب الأكثرون إلى أن الأول استثناء منقطع ، ولم يحك الزجاجي سواه ، ووجهه أن الله تعالى قال : { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } أي لإهلاكهم ، فلا يصح استثناء آل لوط ; منهم لأنهم ليسوا من المجرمين بل هو كلام مستأنف معناه لكن آل لوط ، فإنهم منجون . ثم قال : [ ص: 408 ] إلا امرأته استثناها من المنجين وجعلت من الهالكين ، فتكون مستثناة . قال : وهذا قدح في الاستدلال بالآية ، لكن الدليل على الجواب لسان العرب .

                                                      وقد ترجم عليه سيبويه : باب تثنية المستثنى إذا ثبت ذلك ، فتقول : الاستثناءات المتعددة إن كان البعض معطوفا على البعض كان الكل عائدا إلى الأول المستثنى منه ، وأسقط المجموع من العدد ، ويلزم الباقي نحو : له علي عشرة إلا أربعة ، وإلا ثلاثة ، وإلا اثنين ، فيلزمه واحد . هكذا أطلقه الأستاذ أبو إسحاق ، وأبو منصور .

                                                      وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه : هذا إذا كان المجموع ناقصا عن المستثنى منه فإن كان مساويا أو أزيد بعضها أو مجموعها ، فإن حصلت المساواة بالاستثناء الأول فلا شك في فساده ، وإن حصلت بالأول والثاني مثلا ، وكان الثاني مساويا للأول ، وقد تعذر رجوعه مع الأول المستثنى منه ، وتعذر رجوعه إلى الثاني بالعطف والمساواة فيفسد لا محالة . وهل يفسد معه الأول أيضا حتى لا يسقط من المستثنى منه شيء ، أم يخص الثاني بالفساد ، لأنه نشأ منه ؟ فيه احتمالات . قال الهندي : والظاهر الثاني ، وإن كان الثاني أنقص من الأول ، تعارضا

                                                      أما إذا لم يكن البعض معطوفا على البعض ، فنقل الأستاذ أبو إسحاق وأبو منصور إجماع أصحابنا على رجوع الاستثناء الثاني إلى الأول ، ويوجب ذلك الزيادة في الأصل كقوله : له علي عشرة إلا درهمين إلا درهما ، فأسقط من الدرهمين اللذين استثناهما من العشرة درهما ، فيبقى درهم ، فيلزمه تسعة .

                                                      وكذا قال سليم في " التقريب " : يرجع كل واحد إلى الذي يليه ، فإذا قال : له علي عشرة إلا أربعة ، إلا ثلاثة ، إلا اثنين إلا واحدا ، لزمه ثمانية . [ ص: 409 ] وكذا قال القاضي أبو الطيب في تعليقه : يرجع كل واحد منها إلى الذي يليه ، فإن كان الأول إثباتا كان هو نفيا ، وإن كان نفيا كان هو إثباتا ، فإذا قال : أنت طالق خمسا ، إلا أربعا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت طلقتين ، لأن قوله : خمسا إثبات . وإذا قال : إلا أربعا كان نفيا ، تبقى واحدة . فإذا قال : إلا اثنين فيقع عليها ثلاث ، فإذا قال إلا واحدة كان نفيا فيبقى طلقتان . ا هـ .

                                                      قلت : لكن لا إجماع ، فقد حكى الرافعي عن الحناطي احتمالا فيما لو قال : أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة ، فإنه يحتمل عود الاستثناء الثاني إلى أول اللفظ ، أعني المستثنى منه . قلت : وهو قوي ، فإن الأول ليس له مأخذ غير القرب ، وهو لا يوجب ذلك ، إنما يقتضي الرجحان .

                                                      قال الإمام فخر الدين هذا إذا كان أقل من الأول . يعني كما دل عليه أمثلتهم . فإن كان الثاني أكثر من الاستثناء الأول أو مساويا له عاد الكل إلى المتقدم ، وهو المستثنى منه ، نحو علي عشرة إلا اثنتين إلا ثلاثة إلا أربعة ، ويلزمه واحد ، وتبعه في " المنهاج "

                                                      وقال صاحب " الذخائر " : هذا إذا كان الاستثناء الثاني مما يمكن إخراجه من الأول ، فإن لم يمكن فإن الثاني لغو . ويعمل الأول . فإذا قال : أنت طالق ثلاثا إلا طلقة إلا طلقة لغا الثاني ، وصار كقوله ثلاث إلا طلقة ، فتطلق طلقتين . وكذلك إذا كان الثاني أكثر من الأول ، كقوله : ثلاثا إلا طلقة إلا طلقتين يلغى قوله طلقتين . قال : هذا مقتضى المذهب .

                                                      وقد حكى السيرافي عن أهل اللسان في هذا المحل قولين : أحدهما : إعمال الاستثناءين لجعلهما بمثابة استثناء واحد ، حتى لو قال : علي عشرة إلا درهما إلا درهما يسقطان من العشرة ويصير مقرا بثمانية .

                                                      وحكي عن سيبويه أنه إذا قال : ما أتاني إلا زيد إلا عمرو يكونان [ ص: 410 ] جميعا أتياه . فعلى هذا إذا قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة إلا واحدة ، تطلق طلقة . وإذا قال : ثلاثة إلا طلقة إلا طلقتين . تطلق ثلاثا ، كقوله ثلاثا إلا ثلاثا .

                                                      وحكي عن الفراء أنه إذا كان الثاني أكثر من الأول كقوله : علي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة أن الثاني يكون منفيا ، كأنه قال : علي عشرة إلا ثلاثة ، بقيت سبعة . ثم قال : إلا أربعة ، فيضاف إلى السبعة . فيصير أحد عشر ، فعلى هذا ومثله الطلاق مع الثلاث ، لأنا إذا أضفنا الاثنين في الاستثناء الثاني إلى ما بقي من الثلاث بعد الاستثناء الأول صار أربعا ، ثم بقيت الثلاث . انتهى .

                                                      وما نقله عن الفراء ، حكاه غيره ، وأنه إذا قال له : علي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة ، تكون الثلاثة مستثناة من العشرة ، فيبقى سبعة . ويزال منها أربعة ، فيكون المقر به ثلاثة ، وذكر الرافعي في كتاب الإقرار فيما إذا قال : له علي عشرة إلا خمسة إلا خمسة ، لزوم عشرة ، لأن الثاني مستغرق للأول فيلغيه . وذكر فيه أيضا فيما إذا قال : له علي عشرة إلا ثلاثة إلا ثلاثة أن الثاني يكون توكيدا ، وحكى فيه في كتاب الطلاق وجهين من غير ترجيح : أحدهما : هذا .

                                                      والثاني : يلزمه عشرة ، لأن الاستثناء من النفي إثبات . أما إذا كان الاستثناء الأول مستغرقا للمستثنى منه دون الثاني لأنه من باطل ، يلزمه أربعة ، ويصح الاستثناءان ، لأن الكلام إنما يتم بآخره . قال ابن الصباغ وهذا أقيس .

                                                      والثالث : يلزمه ستة لأن الأول باطل . والثاني : يرجع إلى أول الكلام .

                                                      قلت : والثاني هو نظير ما صححوه من الطلاق في أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين أنه يقع اثنتان .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية