الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        عالم إسلامي بلا فقر

        الدكتور / رفعت السيد العوضي

        المبحث الخامس: التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء

        عند الحديث عن مواجهة الإسلام الفقر لعلاجه باستخدام أسلوب التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء، فإنه قد يفهم أنه الأسلوب الوحيد، ولكن هـذا الفهم يجب أن يصحح.. إنه أحد الأساليب، بل إن استيعاب [ ص: 63 ] المنهج الإسلامي على النحو الذي عرض في هـذا البحث يجعلنا نستنتج أنه الأسلوب الأخير في خطة الإسلام للقضاء على الفقر.

        إن اعتبار التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء الأسلوب الأخير في خطة الإسلام للقضاء على الفقر يفهم في الإطار الآتي:

        اعتبار التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء الأسلوب الأخير لعلاج الفقر، يعني أن الإسلام يبدأ أولا بحل مشكلة الفقر من خلال النشاط الإنتاجي، ومن خلال إدارة الاقتصاد، ومن خلال دور الدولة. والإسلام بهذا يحقق الأهداف الآتية، ويتميز بها:

        (أ ) علاج الفقر من خلال الآلية التي يعمل بها الاقتصاد.

        (ب ) علاج الفقر في إطار النشاط الإنتاجي، أي العملية الإنتاجية.

        (ج ) جعل الدولة شريكا فى المسئولية عن علاج الفقر.

        ( د ) علاج الفقر من خلال تخصيص الموارد الاقتصادية ومن خلال نظام الأولويات الاقتصـادية يتضمن رقيا في التعـامل مع الفقير، فلا يحقد ولا يحس بالدونية والهوان، وهذا يعالج نفسية الفقير.

        (هـ ) علاج الفقر بوسائل غير التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء يجعل الأغنياء لا يشعرون أنهم يتحملون عبء الفقراء ويضحون من أجلهم، وهذا يعالج نفسية الغني.

        والعنصران المذكوران في (د ) و (هـ ) يترتب عليهما عدم وجود صراع في المجتمع، وذلك لانتفاء أسبابه المتعلقة بالفقر. [ ص: 64 ]

        كما أن اعتبار التـحـويـلات من الأغنـياء إلى الفـقـراء الأسـلـوب الأخير في المنهج الإسلامى لعلاج الفقر، لا يتضمن حكما بالدونية على هـذا الأسلوب. إن هـذا الحكم الكيفي غير وارد، وإنما الوارد هـو الترتيب الكمي؛ أي العددي.

        في التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء تجيء الزكاة، وهي أحد أركان الإسلام، ولا يقبل بأي حال من الأحوال أن يحكم على أسلوب فيه الزكاة بالدونية الكيفية، لكن يقبل أن يكون الأخير في الترتيب العددي.

        وترجمة المنهج الإسلامى لعلاج الفقر بأساليبه الخمسة إلى سياسات اقتصادية واعتبار التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء هـي السياسة الأخيرة، يجعل العبء الواقع على هـذه السياسة محدودا بدرجة كافية، وهذا أمر له أهميته الاقتصادية، لأنه يجعل كل ادخارات المجتمع (تقريبا) توجه إلى الاستثمار، ولا يقتطع منها للإعانات الاجتماعية إلا في أضيق نطاق ممكن.

        وتتكون التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء من سلة بها عدد من الأدوات، منها: النفقة الواجبة (نفقة الأقارب ) ، الزكاة، الصدقة التطوعية، الضرائب، وعارية الماعون. هـذه الأدوات المكونة لسلة التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء تتسع، وتتنوع التحليلات المتعلقة بها. من هـذه التحليلات:

        - تشتمل هـذه السلة على أدوات إلزامية، ومنها النفقة الواجبة والزكاة والضرائب، وأدوات اختيارية ومنها الصدقة التطوعية وعارية الماعون وهكذا. [ ص: 65 ]

        وتنوع الأدوات ما بين إلزامية واختيارية يجعل هـذه السلة تشبع شرط الكفاءة الاقتصادية الذي يتحقق من تنوع الأدوات، ومن انخفاض المعدل الذي تفرض به، ومن تنوع الوعاء.

        - تأخذ التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء، على نحو تفصيلي، المراحل التالية:

        المرحلة الأولى: الإلزام

        تتضمن هـذه المرحلة مجموعة من الأدوات: النفقة الواجبة والزكاة. واستكمال القضاء على الفقر بتحويلات من الأغنياء إلى الفقراء بأدوات إلزامية يعطي للمنهج الإسلامي تميزا. والإسلام بهذه المرحلة يضمن عن طريق الإلزام مواجهة مشكلة الفقر. وهناك مظهر آخر من مظاهر تميز المنهج، وهو أن النفقة الواجبة تعمل على مستوى الأسرة، أما الزكاة فتعمل على مستوى المجتمع. على هـذا النحو من التفوق يعمل الإسلام على استكمال القضاء على الفقر بالتحويلات من الأغنياء إلى الفقراء.

        المرحلة الثانية: الاختيار

        حث الإسلام على الصدقة التطوعية. لكن يجب أن تفهم الصدقة التطوعية في الإسلام بالطبيعة الصحيحة لها. إنها مرحلة تكميلية. ويعني هـذا أن الإسلام لا يعمل على القضاء على مشكلة الفقر بالصدقة التطوعية وحدها كما قد يتصور بعض المشتغلين في هـذا المجال.

        ويحقق وجود مرحلة للعمل الاختياري التطوعي في القضاء على [ ص: 66 ] مشكلة الفقر، للمجتمع الإسلامي رابطة اجتماعية إيجابية. إن هـذا التطوع يولد عند الغني الإحساس بالمجتمع، ويولد عند الفقير الإحساس بأن أغنياء المجتمع يشاركونه مشكلته.

        المرحلة الثالثة: الإلزام

        قد يعاني المجتمع من مشكلة الفقر بعد تطبيق أدوات المرحلتين السابقتين. هـنا يعود الإسلام إلى التشريع الإلزامي فيواجه المشكلة بالتوظيف/ الضرائب . والإلزام هـنا لا مفر منه، حيث يمثل المواجهة الأخيرة لمشكلة الفقر.

        وهناك عناصر تفوق في المنهج الإسلامي في القضاء على الفقر بالتحويلات من الأغنياء إلى الفقراء، ومن هـذه العناصر:

        اتجاهات رائدة فيمن يشملهم الضمان الاجتماعي في الإسلام

        إن أهم الاتجاهات الرائدة لتشريعات الضمان الاجتماعي في الإسلام، أنه يمده بحيث يشمل فئات ليس المعهود -في النظم الوضعية- تغطية احتياجاتها، ومنها:

        ( أ) المدين الإسلام يمد الضمان الاجتماعي ليشمل المدينين الذين استدانوا لمصلحة عامة، كالصلح بين المؤمنين، أو لمصلحة خاصة مشروعة مع العجز عن سداد الدين. والإسلام يهدف بهذا إلى أمور محددة:

        - أن ينمي رابطة التعاون بين أفراد الجماعة الإسلامية، وألا يخاف أحدهم [ ص: 67 ] من مد يد المعونة بإقراضه، فالمجتمع ممثلا في الزكاة أو الصدقات التطوعية ضامن أخير عند العجز.

        - أن ينقذ من يهدد بالعجز عن ممارسة دوره الإنتاجي بسبب مديونيته (المشروعة ) .

        - تشجيع المسلمين أن يسعى كل منهم للقضاء على الخصومات بين المتنازعين، وأن يسعى كل منهم في أعمال الخير، وهو أهم الاتجاهات، حتى ولو أدى ذلك أن يغرم، فالمجتمع سيعوضه عن غرمه، ولو كان غير محتاج.

        ( ب) ابن السبيل وهو المسافر الذي نفدت أمواله -والسفر المشروع له صور كثيرة- فيعطى بمقدار ما يسد حاجته، والتشريع الإسلامي بهذا الاتجاه يستهدف تحقيق قيم سلوكية راقية داخل الجماعة الإسلامية.

        اتجاهات رائدة في موارد الضمان الاجتماعي في الإسلام

        ضمن موارد الضمان الاجتماعي: الكفارات، ويعني ذلك أن الإسلام يجعل الخطأ يكفر عنه عمل خير موجه للمجتمع، ويتمثل هـذا العمل الخير في تغطية بعض حاجات الضمان الاجتماعي ، وذلك بإخراج كفارات مالية عـن هـذا الخطـأ. وهذا منحى متمـيز وممـتاز، وأهميته لا تتمثل في مقدار ما يوفر من موارد للضمان الاجتماعي، وإنما تكمن أهميته الحقيقية فى المعنى الذي يهدف إليه، والقيم التي يغرسها ويربيها في نفس المؤمن من حيث دوره في الجماعة الإسلامية، ومسئوليته عن توفير احتياجاتها. [ ص: 68 ]

        اتجاهات رائدة في المجال النفسي في تشريعات التكافل الاجتماعي

        ضمن مراحل التكافل الاجتماعي مرحلة سميت بالمرحلة الاختيارية، وهي التي تظهر فيها صدقة التطوع لمواجهة الضمان الاجتماعي، وكان ضمن التفسيرات التي قدمت لتوضيح هـذا الاتجاه الفكري هـو أن هـذه المرحلة مقصود بها مواجهة ظروف استثنائية، أو ظروف تكميلية عند عجز الموارد السابقة عن تغطية الضمان الاجتماعي، فجعل الإسلام التشريع هـنا يختبر ذاتية المؤمن، ومدى تقديره لمسؤوليته الجماعية.

        بجانب ذلك، فإن هـذا الاتجاه الفكري يشير إلى اتجاهات في النفس الإنسانية من حيث حبها أن تعطي، حتى يتحقق الإشباع لهذا الجانب النفسي في الإنسان. وأيضا إن جعل هـذه المرحلة اختيارية يتوافق مع ضجر النفس الإنسانية من الإلزام، حتى ولو كان في الخير.. ولم يكن مستساغا أن يترك الأمر كلية للنفس الإنسانية بحيث تعطى إشباعها في هـذا المجال، ولكن في الوقت نفسه لم يكن يحتمل أن تحرم كلية من هـذا الاختيار، فأعطى الإسلام لها القدر الممكن واللازم لإشباع هـذا الجانب في النفس الإنسانية.

        كلمة ختام

        إن منهج الإسلام للقضاء على الفقر، والذي قدمناه في الصفحات السابقة، والذي يتأسس على خمسة أساليب، يكتمل بالعناصر التالية:

        1- القضاء على الفقر في الإسلام أمر مرتبط بالعقيدة.وترتيبا على ذلك [ ص: 69 ] نقول: إن أهمية هـذا الموضوع على هـذه الدرجة، ومن الوجه المقابل فإن خطورة الفقر هـي أيضا على هـذه الدرجة.

        2- الزكاة هـي أداة الإسلام الرئيسة في محاربة الفقر وذلك في مرحلة التحويلات من الأغنياء إلى الفقراء.

        والزكاة ثالثة أركان الإسلام الخمسة، بعد الشهادتين وإقام الصلاة، ويعني ذلك أن التشريعات الإسلامية للقضاء على الفقر تنطلق وتبدأ من أركان الإسلام. ومن المعروف أن الركن فوق الفرض والواجب. وهذا الأمر بدوره يحدد الدرجة أو الأهمية التي يعطيها الإسلام للقضاء على الفقر.

        3- في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أعلنت الدولة الحرب على مانعي الزكاة، ودخلت في حرب معهم بسبب ذلك.

        هذه أول مرة في التاريخ يثبت فيها أن الدولة حاربت وقاتلت بجيوشها من أجل القضاء على الفقر. ونقول عن هـذه الحادثة: إنها غير مسبوقة في التاريخ، وكذلك غير متلوة في التاريخ. حرب مانعي الزكاة لا ينبغي أن تكون حادثة وحيدة في التاريخ الإسلامي، وإنما يجب أن تقع عندما يمنع الأغنياء حقوق الفقراء في الأموال التي استخلفهم الله عليها وهي الزكاة.

        4- الفكرة التي يرتبط بها الذين يكتبون عن محاربة الإسلام للفقر، هـي الآتية:

        الزكاة هـي التشريع الإسلامي للقضاء على الفقر. هـذه الفكرة أفهمها على النحو الآتي:

        المنهج الإسلامي للقضاء على الفقر، والمكون من خمسة أساليب بناء على [ ص: 70 ] ما جاء في هـذه الدراسة، يقسم إلى قسمين رئيسين:

        القسم الأول:

        يشمل الأساليب الأربعة الأولى، وهي:

        - صحة العقيدة الاقتصادية.

        - التخصيص الصحيح للموارد الاقتصادية.

        - إدارة الأولويات الاقتصادية.

        - منهج الأولويات الاقتصادية.

        هذه الأساليب الأربعة يوفر بها الإسلام دخلا لكل قادر على العمل بعمله، وبهذا فإنها تعتبر من الإجراءات التي تمنع ظهور الفقر في المجتمع.. ومن خصائص هـذه الأساليب الأربعة أنها تعمل من خلال آلية الاقتصاد في مرحلة الإنتاج. ويعني ذلك أن المنهج الإسلامي للقضاء على الفقر يعمل في جزئه الرئيس تحت مبدأ: الوقاية خير من العلاج. والإسلام بهذا يعمل على منع ظهور الفقر في المجتمع.

        والفقراء الذين يظهرون في المجتمع الإسلامي، بعد عمل الأساليب الأربعة السابقة، هـم غير القادرين على العمل، وهؤلاء هـم الذين شرعت الزكاة من أجلهم (مع ملاحظة أن للزكاة مصارف ثمانية منها مصرفان فقط يعملان على الفقر ) . وترتيبا على ذلك فإن القول: بأن الزكاة هـي التشريع الإسلامي للقضاء على الفقر يفهم بالإحالة لغير القادرين على العمل، أما القادرون على العمل فإن الإسلام يسبق بحل مشكلتهم من خلال الآلية التي يعمل بها الاقتصاد في مرحلة الإنتاج. [ ص: 71 ]

        5- الأساليب الخمسة التي تكون منهج الإسلام للقضاء على الفقر قابلة لأن تحول إلى سياسات اقتصادية تطبق في الواقع، وهذا أحد مظاهر تفوق هـذا المنهج. يضاف إلى هـذا التفوق تفوق آخر، هـو أن تحليل الأساليب الخمسة يبين أنها تسع سياسات (مرنة ) . هـذه المرونة تجعل المنهج الإسلامي يتعامل بكفاءة مع كل المتغيرات التي تواجه المجتمع، سواء أكانت متغيرات اقتصادية أو غير اقتصادية.

        ومن المجالات التي تقترح فيها سياسات اقتصادية:

        (أ ) تخصيص الموارد الاقتصادية بين القطاع العام والقطاع الخاص وداخل كل قطاع.

        (ب ) التخطيط للتنمية الاقتصادية.. ومن السياسات الاقتصادية التي يمكن تطبيقها سياسة أولويات التنمية.

        (جـ ) سياسات العمل والعمال من السياسات الاقتصادية التي يمكن بها تطبيق الأساليب الداخلة في منهج الإسلام للقضاء على الفقر. [ ص: 72 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية