الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        العبادات الإسلامية وأهمية الوقت

        العبادات في الإسلام مقصود بها تعظيم الله سبحانه وتعالى ، هـذا هـو المقصد الأسمى. لا يدخل في المعقولية أن يوضع حظر على ربط العبادات بمقاصد أخرى تالية لمقصدها الأسمى. في إطار هـذا الفهم نحاول أن نستنبط مقصدا للعبادات الإسلامية يتعلق بالوقت من حيث أهميته وتنظيمه. ونقترح أن يتم ذلك بالإحالة إلى الصلاة، مع ملاحظة أن الصلاة لا تمثل التشريع الإسلامي الوحيد الذي يعمل على الوقت.

        - الصلاة أكفأ إطار لتنظيم الوقت

        شرع الإسلام الصلاة بحيث تؤدى في اليوم خمس مرات موزعة على النهار والليل. والصلاة بأوقاتها الخمسة وبتوزيعها على أوقات الليل والنهار، تمثل أكفأ (إطار ) لتنظيم كل أعمال الإنسان. هـذا الإطار يمثل الوعاء الملائم الذي يسع كل أنواع الأعمال المطلوبة من الإنسان، أعمال لوظيفته الاقتصادية، أعمال لبيته، وأي نوع آخر من الأعمال. والإنسان مع الصلاة لا يشكو من اضطراب برنامجه اليومي، أو لا يشكو من عدم قدرته على ضبط برنامج حياته اليومي، وذلك لأنه يخطط لهذا البرنامج مستفيدا من إطار ملائم يشبع شروط الكفاءة. هـذا الإطار (الخماسي ) يمثل تربية على الاهتمام بالوقت والاهتمام بتخطيطه.

        وفي إطار هـذا (البرنامج الخماسي ) لتخطيط أوقات اليوم، جاءت الصلاة [ ص: 77 ] موزعة على النهار والليل توزيعا ذا طبيعة خاصة. لم تجيء الصلاة موزعة توزيعا منتظما بحيث تؤدى كل عدد من الساعات، خمس ساعات مثلا، وإنما جاء توزيعها وقتيا على نحو آخر هـو التوزيع المعروف لصلاة الصبح وصلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب وصلاة العشاء. والوقت بين صلاة الصبح وصلاة الظهر طويل نسبيا، والسبب في ذلك أن هـذا الوقت يمثل (ذروة ) العمل الاقتصادي، لهذا أعطي للعمل وقت ملائم. والوقت الممتد من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ثم من صلاة العصر إلى صلاة المغرب يكاد أن يكون متساويا، وكل منهما أقصر من الوقت بين صلاة الصبح وصلاة الظهر. مجيء الأمر على هـذا المنهج يفهم على النحو الآتي:

        قدرة الشخص على العمل بدأت تضعف، ولهذا فهو يحتاج إلى أوقات راحة يجبر عليها، وجاءت الصلاة في إطار برنامجها الخماسي تعطي (الوعاء الوقتي ) الذي يتلاءم مع هـذه المرحلة.

        من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، يكاد يكون قد انتهى يوم العمل الاقتصادي العادي، لذلك كان الوقت بين هـاتين الصلاتين أقصر الأوقات مقارنا بأوقات الصلوات الأخرى.

        هذا التوزيع للصلاة على أوقات النهار والليل يربي المسلم على كيفية التخطيط للوقت بحيث تبنى (خطة الوقت ) على الاعتبارات الموضوعية الصحيحة.

        ويمتد وقت كل صلاة من الصلوات الخمس على مساحة زمنية.. من حيث [ ص: 78 ] أداء الصلاة في هـذه المساحة الزمنية، فلكل وقت حكم. فصلاة العصر على سبيل المثال لها أربعة أوقـات

        (1 ) : وقت فضيـلة، وقـت اختيـار، وقت جواز بلا كراهة، وقت جواز مع الكراهة

        (2 ) . وإعمالا للمنهج الذي نتبعه نستطيع أن نستنتج مقصدا إسلاميا يتعلق بالوقت من هـذه الأحكام التي أعطيت للأوقات حسب تصنيفها. هـذا المنهج يشكل عقلية المسلم بحيث تربى على إعطاء درجة أهمية معينة لكل لحظة. إن أية ساعة من ساعات اليوم طولها ستون دقيقة، والمنهج الإسلامي يعد ذهنية المسلم على أن هـذه الساعات المتساوية في الدقائق تختلف في أهميتها.. ويمكن توضيح المعنى المقصود بالمثال الآتي:

        القائد العسكري في جبهة القتال يعرف أهمية كل دقيقة، لو أعطى إشارة بالهجوم في لحظة معينة وتأخر بعض أفراد الفريق فإن النتيجة قد تكون هـزيمة مدمرة. يوضح هـذا المثال أن لكل لحظة درجة أهمية حتى وإن تساوت مع لحظة أخرى في مساحتها الزمنية. في النشاط الاقتصادي، توجد نفس هـذه الدرجة من أهمية الوقت.. إن خط إنتاج في مصنع للسيارات يقف عليه عدد من العمال، وكل عامل مكلف بأداء عمل معين ويمر أمامه الجزء الذي يدخل في إنتاج السلعة، لو حدث أن تأخر عامل عن الوقت المحدد له فإن الإنتاج كله يضطرب. [ ص: 79 ]

        نستطيع أن نؤسس على المناقشة السابقة عن دور الصلاة في تربية المسلم على أهمية الوقت وأهمية تنظيمه، عنصرا جديدا يضاف إلى عناصر المنهج الذي نتحدث عنه.. يتعلق هـذا العنصر بأن الصلاة تشكل عقلية المسلم بحيث تجعله يقظا ومنتبها بصفة دائمة للوقت ولمرور كل لحظة ولاستقبال كل لحظة. والمسلم الذي يكون في يقظة كاملة لأوقات الصلوات الخمس على امتداد اليوم، وفي يقظة لكل وقت داخل الصلاة، هـذه الشخصية على هـذا النحو، تكون مراقبة الوقت ومروره مكونا من مكوناتها العقلية والسلوكية.

        تبدأ الصلاة الأولى وهي صلاة الصبح من وقت الفجر، وتبدأ الصلاة الأخيرة وهي صلاة العشاء بعد غروب الشمس (بوقت قصير حوالي ساعة وثلث ) . جاء عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الفجر ولا ينام ويصلي العشاء ولا يعمل. والصلاة على هـذا النحو حددت يوم العمل من حيث بدايته ونهايته. تحديد يوم العمل على هـذا النحو، تطبيق لما جاء في القرآن الكريم.

        يقول سبحانه وتعالى : ( وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ) (الفرقان:47) ،

        ويقول: ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ) (النمل:86) ،

        ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) (القصص:73) .

        نستنتج مما سبق أن الصلاة وهي تشكل عقلية المسلم، تدخل ضمن هـذا التشكيل التربية على بداية يوم العمل ونهايته. على هـذا النحو يصبح من [ ص: 80 ] مقاصد الصلاة تربية المسلم على أن يتعامل مع الوقت على أن هـناك بداية ليوم العمل وهناك نهاية له.

        والتوجيه القرآني بأن النهار للعمل والسعي والجد، وأن الليل للهدوء والسكينة والراحة، يتضمن توجيها للمؤمن بأن يكون متوافقا مع البيئة المحيطة به; سواء البيئة الاجتماعية أو البيئة الطبيعية. إن البيئة التي تحيط بالإنسان والمتمثلة في النوع البشري وكذلك الأحياء الأخرى تكون يقظة ونشطة نهارا، بل إن الشمس وهي أهم عناصر البيئة الطبيعية تشع الحيوية والجد والنشاط في كل الكائنات، وهي بهذا تجعل النهار ملائما للعمل والحركة.

        لقد كشفت المناقشة السابقة عن عناصر تربط بين الصلاة وأهمية الوقت وتنظيمه. وبالأخذ في الاعتبار هـذه العناصر وعناصر أخرى يمكن اكتشافها، نستطيع أن نستنتج عناصر المنهج الإسلامي في توظيف الصلاة لتحقيق مقصد من مقاصدها وهو تشكيل عقلية المسلم بحيث يكون الوقت في أهميته وتنظيمه والاستفادة منه على أكمل وجه، أحد مكونات هـذه العقلية.. والعناصر المستـنتجة هـي التربية على:

        - التخطيط العام للاستفادة بالوقت.

        - أن يبدأ يوم العمل وينتهي بما يتلاءم مع البيئة المحيطة بالإنسان التي خلقها الله سبحانه وتعالى .

        - اليقظة التامة لاستقبال الوقت ومروره وانتهائه.

        - إعطاء درجة أهمية لجزئيات الوقت، بحيث يترجم ذلك أهمية العمل ويترجم في أهمية العمل. [ ص: 81 ]

        - أن تتخلل العمل أوقات راحة. ويدخل في ذلك التخطيط لوقت الفراغ، وهو ما يسمى في الأدبيات المعاصرة باقتصاديات الفراغ.

        - التخطيط للعمل خلال الوقت بما يتلاءم مع قدرات الشخص العقلية والبدنية، وكذلك من حيث حيوية طاقته أو ضعفها.

        - أهمية العمل الاقتصادي والتخطيط له في إطار العبادات المشروعة.

        -أن العبـادات تمثـل إطـارا ملائما للتخطيـط للعمـل وأنها لا تتسـبب في تعطيله.

        -أن العبادات تستهدف إعادة النشاط للشخص روحيا وعقليا وبدنيا، وبذلك يوظف وقت الفراغ لخدمة وقت العمل.

        - أن الإسلام يفرض راحة إجبارية طويلة (الجزء الأكبر من الليل ) .

        - أن الإسلام شرع العمل والعبادة بما يجعل الإنسان عقليا وبدنيا في انسجام مع البيئة المحيطة به.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية